تعاملت "إسرائيل" مع عملية "طوفان الأقصى" كعملية استراتيجية يمكن أن تغيّر الواقع الأمني الاستراتيجي لـ"إسرائيل" في كافة الجبهات، جبهة غزة والضفة الغربية وأمام "حزب الله" اللبناني في الشمال، وكذلك أمام المواطنين العرب. منذ بدء الحرب على غزة، تبنت الحكومة "الإسرائيلية" وصنّاع القرار والمحللين، تعريف الحرب بأنها حرب وجودية وحرب استقلال ثانية. طبيعة الرد "الإسرائيلي" وحرب الإبادة وتدمير قطاع غزة، بالإضافة إلى رغبة الانتقام "الإسرائيلية"، تهدف وفقاً للمفاهيم "الإسرائيلية" إلى ترميم مكانة "إسرائيل" الاستراتيجية في المنطقة وليس فقط ترميم قدرة الردع "الإسرائيلية"، وتوفير الأمن لعقود من الآن وفقاً لتصريحات صنّاع القرار، ولا تقل أهمية إعادة ثقة المجتمع "الإسرائيلي" بالدولة ومؤسساتها الأمنية والسياسية.
مع دخول الحرب على غزة شهرها السادس في 7 مارس/آذار الحالي، لا تستطيع إسرائيل القول إنها بصدد تحقيق هذه الأهداف.
الحرب على غزة... ضررٌ في المكانة الاستراتيجية
تعاني "إسرائيل" منذ عملية "طوفان الأقصى" والحرب على غزة من ضرر بالغ طاول جوهر عقيدتها العسكرية ومكانتها الاستراتيجية. لم تتراجع قدرة الردع تجاه غزة فقط، إنما تآكلت بشكل كبير أمام "حزب الله" وأمام فاعلين آخرين في المنطقة مثل جماعة الحوثيين في اليمن، ومنظمات عسكرية في العراق.
هذا التراجع يضرب "عقيدة الضاحية" التي وضعها الوزير الحالي في مجلس الحرب غادي آيزنكوت في العام 2008، حين شغل منصب قائد المنطقة الشمالية في الجيش "الإسرائيلي". كان هدف هذه العقيدة التوضيح لـ"أعداء إسرائيل" أن دولة "إسرائيل" ستتصرف في أي حرب قادمة كدولة مجنونة، وستقوم بتدمير البنى التحتية المدنية والعسكرية لأي دولة تهاجم "إسرائيل"، أو كرد على أي هجوم تقوم به أي منظمة عسكرية، خصوصاً "حزب الله"، وسيكون الرد غير متناسب مع مستوى الهجوم.
تبدّل "قواعد الاشتباك" "الإسرائيلية"
لكن هذه العقيدة لم تردع حركة "حماس" بالرغم أنها طُبّقت جزئياً في حروب سابقة مع "حماس" منذ العام 2009، ولا تردع كلياً "حزب الله" حالياً.
الردع "الإسرائيلي" لم يكن المركب الوحيد الذي تآكل في العقيدة الأمنية - الحربية "الإسرائيلية". فمع دخول الحرب على غزة شهرها السادس، لم تنجح إسرائيل في حسم المعركة. صحيح أنها دمرت قطاع غزة بشكل شبه كامل، وأنها قتلت أكثر من 31 ألف فلسطيني في غزة، ودمرت قسماً كبيراً من قدرات "حماس" العسكرية والتنظيمية، لكنها لم تحسم الحرب بعد خمسة أشهر وأكثر، ولا يمكنها أن تدعي الانتصار. تراجع قدرة الحسم يمسّ بشكل جدي صورة "إسرائيل" العسكرية وسلطتها، الحقيقية والمتخيلة، أمام "حماس" أو غيرها في المنطقة. كما كشفت الحرب تعلق "إسرائيل" الوجودي بالدعم الأميركي، العسكري والاقتصادي والدبلوماسي.
"إسرائيل" خسرت الكثير من أدوات العظمة - السلطة (Power) التي تمكنها من فرض شروطها ورغباتها على من تشاء وكيفما تشاء في المنطقة، كما اعتادت في الماضي. تراجع العظمة - السلطة يؤدي لاستعمال القوة وفقاً لنظريات العلاقات الدولية، بغية فرض الرغبات والحفاظ على المصالح. إلا أن أداء إسرائيل لغاية الآن في الحرب على غزة لا يشي أنها تستطيع أن تقوم بحملات عسكرية خاطفة أو طويلة بسهولة، أو بضرر معقول ومقبول بالمفاهيم الإسرائيلية. وفي ذلك ضرر كبير من منظار إسرائيلي، كما يوضح الصحافي أمير أورن في مقال بصحيفة "هآرتس" (نشر يوم الأحد في 10 مارس/آذار الحالي)، لاستعراض الفشل في الحرب على غزة حتى الآن. ويشير أورن إلى أخطاء استراتيجية وتكتيكية قام بها الجيش الإسرائيلي في إدارة الحرب على غزة، بالإضافة إلى إدارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الفاشلة للحالة الراهنة عامةً.
تنعكس هذه التحولات في تعامل إسرائيل مع الجبهة الشمالية. فلغاية الآن، لم تنجح إسرائيل في ردع "حزب الله" بالكامل ولا في فرض مطالبها، من جهة، لكنها لم تبدأ بحرب أوسع تجاه "حزب الله" ولبنان من جهة أخرى. صحيح أن "حزب الله" يخشى أيضا توسع الجبهة والذهاب إلى حرب واسعة كونه يعرف الأثمان والإسقاطات. لكن واضح أن معادلات الردع والاشتباك تغيرت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وليس في صالح إسرائيل.
موقع "واي نت" الإخباري عدّد في تقرير نشر أول من أمس الأحد، سلسلة التهديدات التي أطلقها وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت منذ أكتوبر الماضي تجاه "حزب الله"، ولم ينفذ أيا منها بالكامل حتى اليوم، على الرغم من استمرار قصف "حزب الله" لبلدات إسرائيلية في الحدود الشمالية. من هذه التهديدات، مقولته إن خراطيم الطائرات الحربية موجهة وجاهزة نحو الشمال، وإن إسرائيل تستطيع إعادة لبنان إلى العصر الحجري، واستمرار التدريبات العسكرية البرّية الشبه أسبوعية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في الشمال، ونشر أخبار حول تدريبات يقوم بها الجيش الإسرائيلي لإلقاء معدات عسكرية وأغذية جواً تحضيراً لأي حرب قادمة في الشمال، والأخبار حول تحضيرات بدأت بها الجبهة الداخلية لتجهيز أماكن إقامة بديلة في شمال إسرائيل في حال توسعت الحرب هناك. بالإضافة إلى تهديد غالانت في 5 مارس أن "تصرفات حزب الله تقربنا من حرب واسعة في الشمال".
إسرائيل تقوم بكل الخطوات والتحضيرات التي تشي أنها متجهة نحو توسيع الجبهة في الشمال، وربما وصولاً إلى حرب شاملة مع "حزب الله". لكنها تتحدث في الوقت ذاته عن مخاطر فتح حرب كهذه وأثمانها التي لم تعهدها في السابق.
المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" يوسي ملمان نشر مقالة موسعة في 20 فبراير/شباط الماضي، يحذر فيها من أن حرباً مع "حزب الله" يمكن أن تتطور إلى حالة تدمير متبادل، بسبب التغيرات في قدرات "حزب الله" العسكرية والصاروخية. ملمان استعمل مصطلح "قدرة التدمير المتبادل" (MAD-(Mutual assured destruction، المأخوذة من عهد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لتوصيف الحالة الراهنة بين إسرائيل و"حزب الله".
هذا مشهد جديد في الحالة الاستراتيجية الإسرائيلية لم تعهده في السابق، ويخلق تخبطات غير بسيطة لدى صنّاع القرار في إسرائيل. ويعني فشل عقيدة الضاحية والردع الإسرائيلي، وتراجع مكانة إسرائيل الأمنية الاستراتيجية في المنطقة. على الرغم من مشاهد القتل والدمار في حرب الإبادة على غزة.
الحاجة إلى ترميم مكانة إسرائيل الاستراتيجية يمكن أن تفسر أيضاً تصرف إسرائيل في ملف المفاوضات مع "حماس"، حول إطلاق سراح الأسرى والمخطوفين.
إسرائيل لم تنجح لغاية الآن، في فرض شروطها في المفاوضات مع "حماس" لإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين. حرب الإبادة وتدمير غزة وأدوات التجويع، لم تنجح في تركيع "حماس" ولا سكان غزة، بل إنها باتت تضر في مصالح إسرائيل، وتشكل عبئاً على سياساتها في غزة. سياسة التجويع باتت تشكل الآن عامل ضغط دفع إلى تدخل عدد من الدول لإدخال مساعدات وأغذية إلى غزة، منها عبر الإنزال الجوي، ومنها عبر رفع وتيرة إدخال الشاحنات، ومنها ما طرحه أخيراً الرئيس الأميركي جو بايدن حول بناء ميناء عائم على شاطئ غزة لنقل المساعدات الإنسانية. كما تغذي جرائم إسرائيل التظاهرات في العواصم الأوروبية وتؤدي إلى زيادة الضغط السياسي الداخلي على إدارة بايدن، كما توسع الشرخ بين الإدارة الأميركية ونتنياهو.
كل هذه المبادرات، على الرغم من أنها غير كافية ولا تسد احتياجات قطاع غزة، توضح أن سياسات إسرائيل وأدوات الضغط على غزة، لم تنجح في التوصل إلى إطلاق سراح أسرى ومخطوفين، بخلاف ادعاء الجيش ووزير الأمن غالانت بأن العملية العسكرية البرّية ستشكل بالضرورة ضغطاً على حركة "حماس" لإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين.
فشل الاستراتيجية في المفاوضات حتى اليوم، قد يفسر البيان غير الاعتيادي الذي أصدره مكتب رئيس الوزراء باسم جهاز الاستخبارات الخارجي "الموساد" في 10 مارس، والذي يتهم فيه "الموساد" حركة "حماس" بإفشال جولة المفاوضات الأخيرة في القاهرة. هذا البيان أدى إلى ردود حادة من قبل وزراء في مجلس الحرب، من دون الإفصاح عن هوياتهم، تتهم نتنياهو بالكذب وتوضح أن من يعيق التوصل إلى صفقة وقف إطلاق نار وتبادل أسري هو نتنياهو، وليس "حماس"، كما وضّح الصحافي بن كسبيت من صحيفة "معاريف".
البحث عن ترميم المكانة الاستراتيجية
عدم الحسم العسكري في الحرب على غزة، وتراجع الردع والحسم أمام "حزب الله"، وتعثر المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين، وعناد نتنياهو للاستمرار في الحرب بحثاً عن إنجاز استراتيجي يرمّم مكانة الجيش الإسرائيلي ويساهم في تحسين مكانة نتنياهو السياسية، تدفع معاً نحو توسيع الأزمة بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن، وإلى زيادة العزلة الدبلوماسية الإسرائيلية عالمياً، بل إن بايدن بات ينتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي علناً ويوضح أنه ضرر على مصالح إسرائيل يفوق فائدته. هذا بالإضافة إلى زيادة التصدعات السياسية وتآكل الوحدة داخل المجتمع الإسرائيلي.
عملية "طوفان الأقصى" أدخلت إسرائيل في ضائقة استراتيجية بصيغة تأكل قدرتها على الردع والحسم، وتراجعت عظمتها - سلطتها في المنطقة، ومكانتها الاقتصادية، وضربت ثقة المجتمع بالمؤسسة العسكرية والسياسية. رد إسرائيل وإدارتها للحرب على غزة، وصور القتل والدمار والتجويع، وتصرف نتنياهو، تضيف أبعاداً للضائقة الاستراتيجية، بدل أن تكون الحل كما ادعت المؤسسة العسكرية ووزير الأمن ورئيس الوزراء مع بداية الحرب على غزة.