يَنهمكُ الغزي أبو محمد حرب في الستينيات من عمره في نقل تربة زراعية من حفرة سببتها الغارات الإسرائيلية على مقبرة (حي الشَعَف) شرق مدينة غزة، ينقل تلك التربة الطينية من تلك المقبرة التي تبعد عن منزله ميلاً واحداً تقريباً، ومنها إلى داخل حوض استحمام صغير "بانيو" كَسَّرتْ الغارات حَوافه؛ فأصبح غير صالحا للاستخدام؛ إلا أنَّ أبو محمد وجدَ فيه ضالته، محولاً إياه إلى حوضٍ زراعيٍ جديدٍ إلى جانب أحواض أخرى رصَّها فوق سطح منزله المدمر، في محاولةٍ لزراعة أشتالٍ يمكن أنْ تخفف عنه وعن عائلته وطأة المجاعة الشديدة في شمال قطاع غزة.
ويواصلُ أبو محمد تسوية التربة الطينية داخل حوض الاستحمام "البانيو" تارة بكلتا يديه من خلاله أصابعه المُفَرَّقة، وتارة مستعيناً بفأس صغيرة تقارب حجم كف يده، ولا يتوانى عن مواصلة عمله في تلك الأحواض، على الرغم من الجو شديد الحرارة في وقت الظهيرة، إذ يدرك تماماً أنَّ مشروعه في الأحواض الزراعية إنما هو "مشروع حياة" له ولعائلته التي تتضور جوعاً بفعل المجاعة التي سلبت من وزنه حوالي 20 كيلوجراماً، وسلبت كذلك من عائلته المكونة من تسعة أفراد حوالي 120 كيلوجراماً
يطُلُ أبو محمد من بين سيقان الملوخية والريحان التي زرعهما في احواضه على سطح منزله، ويقول وقد أغلق عينيه لهنيهة في إرهاقٍ طاغ من جراء رعاية مزروعاته: "نعاني الجوع من شهور عدة، وأحاول أن أجد بدائلَ وحلولاً لسد رمق عائلتي"، يضيف وهو يتنهد بحرقة "الوضع جدُّ خطير للغاية، ونحن على مشارف موت محقق بفعل التجويع المتعمد، ولا بد من السعي للبقاء!".
ويلجأ كثير من الغزيين في شمال غزة إلى استثمار أي مساحةٍ
رملية في منازلهم لزراعتها بالأشتال والأشجار؛ علَّها تجود عليهم ببعض المحاصيل والثمار التي يمكن أنْ تقيهم الجوع، وكثير منهم يلجأ إلى الزراعة فوق أسطح منازلهم؛ نظراً لافتقارهم إلى مساحات رملية فارغة في تلك المنازل.
ويحبذ كثير من الغزيين زراعة المحاصيل الموسمية للاستفادة السريعة منها، نظراً للمخمصة
والمجاعة المتفاقمة، فتجدهم يزرعون أشتال "البندورة، والفلفل، والخيار، والباذنجان، وعائلة القَرعيات (الكوسا، اليقطين، القرع)، كذلك يزرعون الملوخية، والبامية، والفجل، والجرجير، والجرادة".
ولم تكن محدودية الخبرة بالفلاحة عائقاً امام كثير من الغزيين الذين باشروا بالزراعات المنزلية، فهذا أبو محمد متقاعد من سلك التدريس ولا خبرة سابقة له بالزراعة وأعمالها، يقول :"الحاجةُ هي أم الاختراع، والجوع الذي نعانيه هو سر الدافع (..) لم تكن لديَّ خبرة سابقة في الفلاحة، لكن وجدت أنه من الضروري مباشرة الزراعة، فجلبتُ احواض الاستحمام من منزلي المدمر، وباشرت برفعها للأسطح وزراعتها، واخترت الزراعة على الاسطح نظراً لعدم وجود أرض فارغة لديَّ او مساحة يمكن الزراعة فيها".
ويضيف أبو محمد متحدثاً عن العقبات التي واجهته خلال الزراعة : "واجهتني كثير من العقبات بسبب نقص لوازم الزراعة مثل نقص المياه، نظراً لشُحها في المناطق الشمالية في قطاع غزة، إذ أضطر إلى جلب المياه من مناطق بعيدة نسبياً، وواجهت مشاكل أخرى لعدم وجود خبرة سابقة في الزراعة مثل الآفات التي تستهدف المحاصيل، وطريقة التلقيح الصناعي لبعض المحاصيل مثل القرع، وعدم وجود خبرة في تسميد الأرض.. الخ، مستأنفا "لكن سرعان ما تخطيت تلك المرحلة من خلال سؤالي ذوي الاختصاص، ومتاجر بيع البذور والاشتال".
محمد صلاح في الثلاثينيات من عمره هو الآخر استثمر فناء منزله الذي يبلغ مساحته 100 متر، كإجراء احترازي من اشتداد المجاعة في شمال قطاع غزة، يقول :"زرعت فناء منزلي الخلفي بالقرع، لتقديري أنَّ الاحتلال سيمعن في حصاره لشمال غزة"، ولجأ إلى زراعة بذور القرع؛ بالنظر الى شح القرع في الاسواق الغزية، عوضاً عن ارتفاع سعره، إذ يبلغ سعر الكيلوجرام منه حوالي 120 شيكل (35 دولاراً امريكياً)، مع تنويههِ إلى أنَّ الكيلوجرام الواحد لا يكفي عائلته –المكونة من تسعة أفراد- شيئاً، ولا يسد احتياجهم مطلقاً.
وفضَّلَ صلاح زراعة القرع على غيره من المحاصيل؛ نظراً لأن ثمار القرع يمكن تخزينها على مدى بعيد دون أي فساد يلحقها، وهو ما يمكن ان يوفر له ولعائلته محصولاً وفيراً على مدى بعيد، كما فضله على غيره من المحاصيل لعدم احتياج تخزينه لثلاجات، لاسيما انَّ التيار الكهرباء في قطاع غزة مقطوع منذ تسعة أشهر ، كما فضَّله على غيره من المحاصيل بالنظر إلى قيمته الغذائية العالية وما يحتويه من عناصر غذائية تحتاجه اجسامهم التي أنهكها الجوع ونقص الغذاء.
المهندس الزراعي براء غانم (32 عاماً) صاحب متجر لبيع الاشتال والبذور ومستلزمات الزراعة علَّقَ على تهافت كثير من الغزيين على متاجر البذور، قائلاً: "اجد ارتفاعاً وطلباً متصاعداً من الغزيين على البذور والاشتال ومستلزمات الزراعة، وهذا مرده إلى حالة العوز للغذاء الذي سببته المجاعة".
ويبدو أنَّ المجاعة حفَّزت كثير من الناس في شمال قطاع غزة تجاه ثقافة زراعة المساحات الفارغة في منازلهم ومحيطها، إذ يقول :"منذ أشهر ومع اشتداد المجاعة تنامت ثقافة الناس نحو مواجهة المجاعة عبر زراعة الاراضي، أو الزراعة على اسطح المنازل، أو حتى على النوافذ، فأجدهم يسألون ويستفسرون عن كل ما يتعلق بالزراعات الموسمية المفقودة في غزة، ويشترون مستلزمات الزراعة من مبيدات واسمدة وادوات الحراثة، ويواظبون على الشراء على الرغم من ارتفاع اسعار البذور والاشتال والمبيدات والاسمدة بشكل كبير، كونها اصبحت شحيحة في شمال غزة المحاصر".
ووفقاً للمهندس غانم فإنَّ الزراعة على الأسطح والمساحات الفارغة في شمال قطاع غزة تمثل حلاً لجزء يسير من العائلات، ولا يمكن اعتبارها حلاً مستداماً لمشكلة المجاعة القائمة، نظراً لموسمية الزراعة في غزة، وعدم امتلاك 95% من السكان لأراضي خالية في ظل التمدد العمراني، وخشية الأهالي ممن لديهم اراضي واسعة من زراعتها مغبة استهدافها من قبل قوات الاحتلال، التي تستهدف الأخضر واليابس في غزة.
ويعاني شمال قطاع غزة من مجاعة شديدة لم يرَ العالم لها مثيلاً منذ قرون عدة، بسبب الحصار الإسرائيلي الجائر واغلاق أي منفذ يمكن من خلاله إدخال الطعام والدواء إلى شمال القطاع، وهو ما أدى إلى وفيَّات بين الأطفال والمسنين والمرضى، وسوء تغذية كبير بين الشباب، حتى وصل الحال بالأهالي إلى اللجوء إلى أعلاف الحيوانات، وأكل الحشائش البرية.