بالكاد، استطاع المسن إبراهيم عبدو البنا (80 عاماً)، من مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، عبورَ شارع القصيلة (كراج رفح) الذي غَزَتْهُ مياه الصرف الصحي، بعد أن هرع أحد المارة لمساعدته، إثر سقوطه مراراً واتساخ ملابسه بالمياه العادمة التي أضافت مزيداً من المعاناة للمواطنين في المنطقة التي شهدت دماراً هائلاً في المباني والبنى التحية؛ بفعل الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر.
توقف البنا لهنيهة على جانبي الطريق الممتلئ بمياه الصرف الصحي وركام المنازل المدمرة، ووضع يده على أنفه محاولاً تفادي الرائحة الكريهة، قبل أن يقول لمراسل "شمس نيوز": "ألا تكفي مأساة الحرب والقصف والدمار لتزيدها بلة فيضان مياه الصرف الصحي؟ هذه كارثة بيئية ومهلكة صحية ومن الخطر العيش حول هذه المستنقعات"، مضيفاً: "تعبنا مع هذا الوضع، وين العالم وحقوق الإنسان؟ .. والله حرام إِلِّي بصير فينا".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
خلال النكبة الفلسطينية عام 1948م نزح البنا قسرياً مع عائلته من مدينة يافا -التي ولد فيها عام 1945م-، واشتد عوده في مدينة خانيونس، قبل أن يغادرها لدراسة "الهندسة البيئية" في إحدى جامعات مدينة أزمير التركية، وعمل في هذا المجال في ليبيا والجزائر وتركيا مدة تقارب 30 عاماً، قبل أن يقرر -في نهاية المطاف- العودة إلى وطنه والاستقرار فيها، يوضح: "أينما تذهب لن تجد أفضل من وطنك".
في نزوحه الثاني خلال الحرب المتواصلة على قطاع غزة (2024م)، تضرر بيت المسن البنا بشكل بالغٍ جراء قصفه بقذائف المدفعية الإسرائيلية، وقُتِلَ ابنه الأكبر البالغ من العمر 55 عاماً، تاركاً خلفه 8 أفراد يعيشون تحت خط الفقر المدقع.
حال المواطن عبد صقر (58 عاماً) ليس بأحسن من سابقه، فهو الآخر لم يُخفِ معاناته الشديدة جراء غرق منطقته بمياه الصرف الصحي من كل حدبٍ وصوبٍ، وسط انتشار مكثف للبعوض والذباب والحشرات الضارة، واستفحال الروائح الكريهة، علاوةً على إصابة أطفاله بالأمراض المعوية والجلدية، والحرمان من النوم السليم؛ ما يزيد أوضاعه المتهالكة "سوءاً فوق سوئها".
يشرح صقر لمراسل "شمس نيوز": "هذه المنطقة كانت من المناطق الحيوية في خانيونس قبل العدوان، لكنها باتت مستنقعاً من المجاري"، ويضيف: "هذه الأزمة خلقت أزمات أكثر فالمواصلات تعطلت، والأمور الحياتية الأساسية تعطلت (..)".
إغلاق الطرقات بالمياه العادمة إضافةً إلى الظروف الإنسانية القاسية والنقص المالي الشديد الذي يعيشه "صقر" وأهالي منطقته، يَحُولُ دونَ قدرتهم على توفير سيارة لنقل أبنائهم لمستشفى ناصر الطبي عند إصابتهم بالأمراض الناجمة عن استفحال مياه الصرف الصحي، ما يضطرهم للمشي عدة كيلو مترات للوصول للمستشفى وتلقي العلاج -إن وُجد-.
مناطق "حسبة السمك" ومحيط مستشفى ناصر الطبي، لم تسلم هي الأخرى من "غزو" مياه الصرف الصحي التي تجمعت على شكل مستنقعات قذرة، وسط مخاوف يطلقها الأهالي من خطر حقيقي.
هذه الحالة، دفعت أهالي المناطق إلى دق ناقوس الخطر، والتوجه إلى طواقم بلدية خانيونس أملاً في وضع حدٍ و"شفط" المياه القذرة، والتي بدورها (البلدية) وعدتهم بالعمل على ذلك حال توفر الوقود اللازم، وهو ما شكَّل حالةً من الصدمة لدى المواطنين.
وتعمَّد الاحتلال الإسرائيلي، خلال حربه التي يشنها على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، تدميرَ البنية التحتية في مدن القطاع كافة، وتدمير شبكات المياه وشبكات الصرف الصحي، ومنع إدخال الوقود والسولار اللازم لتصريفها، ما أدى إلى فيضانها في الطرقات، وسبَّبت تلوثاً بيئياً وتنذر بكارثة صحية خطرة تهدد حياة المواطنين.
وأكدت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا، أن مرافق الصرف الصحي والبنية التحتية بقطاع غزة معرضة للخطر الشديد، وانتشار الأوبئة والأمراض الجلدية والمعوية بين النازحين.
من جهتها، قالت منظمة الصحة العالمية إن سكان القطاع يشربون مياه الصرف الصحي ويأكلون العشب وعلف الحيوانات.
خطر مُحدق
مُجبراً، استقر المواطن محمد أبو رجيلة (81 عاماً)، وهو نازحٌ من بلدة عبسان الكبيرة شرقي مدينة خانيونس، في خيمة صغيرة، تحوم حولها مياه الصرف الصحي، يروي لمراسل "شمس نيوز" تفاصيل صادمة حول معاناته: "اضطررت للاستحمام بـ"ليفة جلي" صحون الطعام، ويضيف: "أصبحت الأمراض تسبح في أجسادنا، و"الدمامل والحب والبثور" تتغلغل فيها، حتى البراغيث انتشرت والذباب أصبح يقرصنا كالعقارب، بسبب المجاري والمياه الملوثة وسوء التغذية".
على مقربةٍ منه، تجلس المواطنة رزقة قديح (82 عاماً)، التي أكدت أنها "اغتسلت بماء خام دون صابون"؛ نظراً لانتفاء قدرتها على توفيره. تقول: "القمل وصلنا واحنا عمرنا ما شفناه، انتشر فينا "حب" وجراثيم و"حُمَّى" بتاكل فينا زي الشوك، ويسيل من شعرنا دم، ومن جلدنا يسيل ماء أصفر (..)"
حافي القدمين، يتنقل الطفل بحر الدين زعرب (10 أعوام) ومن خلفه مجموعة من الأطفال وكبار السن، فوق مياه الصرف الصحي بعد أن وضع سكان المنطقة عدداً من "الأحجار" منتصف "البِرَك" المتجمعة وسط الشارع المؤدي إلى بيته.
أما الطفل سامح حسنين (14 عاماً)، فقد تسبَّبت له هذه المستنقعات، بالعديدِ من الأمراض الجلدية والرئوية "كالحساسية والسعال الشديد"، كما اشتكى من صعوبة تخطي الشارع، ما أجبره على قطع مسافات أطول، مناشداً بضرورة إيجاد حلٍ عاجلٍ لهذه الكارثة الصحية: "احنا تعبنا كتير وبدنا تلاقولنا حل".
الطفل سند أبو رجيلة (12 عاماً)، خسر ما يربو عن 5 كيلوغرام من وزنه، وأصيب بمرض أدى إلى "تكسير خلايا الدم" لديه، وتفشَّت الحساسية والحرارة في مناطق متفرقة من جسده، كما أصيب شقيقه بلال (11 عاماً) بأزمة مزمنة في الصدر نتيجة الروائح الكريهة لمياه الصرف الصحي والبارود الناجم عن القصف الإسرائيلي وقلة الغذاء.
كارثة صحية
إزاء ذلك، يُسلِّط الدكتور أنس أبو محسن، رئيس قسم الباطنة في مجمع ناصر الطبي، الضوءَ على الأمراض التي يسببها فيضان الصرف الصحي، وخطورتها البالغة على حياة المواطنين.
ولفت د. أبو محسن، لمراسل "شمس نيوز"، إلى أن تسرب مياه الصرف الصحي واختلاطها بالمياه الجوفية، أدى إلى إصابة أعداد كبيرة من السكان والنازحين بمرض "اليرقان" (التهاب الكبد الوبائي A)، وهو مرضٌ معدٍ وسريع الانتشار، سيما في ظل الاكتظاظ السكاني في أماكن النزوح.
لاحظ د. أبو محسن، خلال عمله في مستشفى ناصر، خلال الحرب ارتفاعاً هائلاً في أعداد المصابين بهذا المرض مقارنةً بالسنوات الماضية، إذ كانت تسجل فيما مضى 100 حالة سنوياً، ولكنها خلال الـ 9 أشهر الأخيرة وصلت إلى عشرات آلاف الحالات، مُوضحاً أن 98% تماثلوا للشفاء، في حين لقي 2% من المصابين حتفهم.
من ضمن الأمراض التي يسببها الصرف الصحي كذلك، مرض "النزلات المعوية"، والذي يعتبر "القيؤ" و"الإسهال" أبرز ملامحه وأعراضه، وهو -كما يقول- مرض يزيد نسبة الجفاف عند الأطفال وكبار السن جراء فقد كمية كبيرة من الأملاح والسوائل، وقد يؤدي إلى الوفاة.
تختلف "النزلات المعوية" الحالية عمًّا كانت قبل الحرب، -بحسب د. أبو محسن- إذ إنها في الغالب تنتهي بعد 4 أيام، ولكن أغلب المرضى الحاليين يشكون من أعراض طويلة الأمد قد تصل لمدة تزيد عن 4 أشهر، وهذا دليل على أن تكوُّن بكتيريا لم تكن موجودة قبل الحرب.
وتتسبب مياه الصرف الصحي في تكاثر نوع من أنواع البكتيريا العنقودية التي تصيب الجلد، وهو ما يفسر إصابة الكثير من النازحين بـ"الحساسية" "والطفح الجلدي".
ويضيف: "كما تسبب مياه الصرف الصحي التهابات رئوية حادة لدى المصابين، وهناك عدة حالات نرى أنها أُصيبت بمرض "الكوليرا"، ولكن بسبب عدم توفر التحاليل الطبية اللازمة ونقص الإمدادات الطبية لم نستطع الجزم بذلك".
ويرى د. أبو محسن أن "الوقاية خير من العلاج"، وينصح بالمواظبة على تعقيم الأيدي بالجل الكحولي، وغسل اليدين بالماء والصابون باستمرار، وعدم تناول الطعام المكشوف، وغسل الخضروات جيداً بالماء والصابون، وطهي الطعام جيداً قبل أكله، كما ينصح المريض المصاب بالإسهال والنزلات المعوية وخصوصاً "اليرقان" بالعزل لمدة 10 أيام متتالية.
وأشار رئيس قسم الباطنة في مجمع ناصر الطبي، إلى أن نسبة العلاجات المتوفرة في المستشفى وصلت إلى 30% من نسبتها قبل الحرب، والتحاليل الطبية إلى 20%، والصور التلفزيونية والإشعاعية إلى 50%، مؤكداً أن "العلاجات الموجودة تُعتبر قليلة الفاعلية" وأن "الأدوية التي تأتي على شكل مساعدات ما هي إلا ذر للرماد في العيون ولا فائدة كبيرة تُرجى منها".
البلدية لا حول لها ولا قوة!
بدورها، حذرت بلدية خانيونس من كارثة بيئية وصحية جراء غرق شارع القصيلة ومحيط مستشفى ناصر بمياه الصرف الصحي، نتيجة نفاد السولار وعدم المقدرة على تشغيل محطات الضخ الرئيسية.
وفي حديثه لـ"شمس نيوز"، بيَّن مدير قسم الصرف الصحي في البلدية، م. محمد أبو شعر، أن 6 محطات لضخ الصرف الصحي في المدينة من أصل 9 محطات دُمِّرت؛ بفعل استهداف الاحتلال الإسرائيلي للبنى التحتية بشكل مباشر، إضافةً إلى تدمير محطة المعالجة المركزية الوحيدة الموجودة في منطقة صوفا شرقي خانيونس، وعدم سماح الاحتلال لطواقم البلدية بالوصول إليها.
ووفقاً لـ"أبو شعر"، فإن أكثر من 40% من شبكات الصرف الصحي في خانيونس مدمرة، وهذه النسبة تشمل تدمير "مواسير" و"مناهل" وردم خطوط، وإغلاق و"تسديد" للشبكات بالحجارة والركام والنفايات، إضافة إلى الدمار الهائل في شبكات مياه الأمطار.
أدى "تكسير" الخطوط إلى تلوث التربة وتسرب مياه الصرف الصحي ووصولها إلى خطوط مياه الأمطار التي بدورها تنتقل إلى "بِرَك" خاصة مصممة تجمع المياه نظيفةً، ثم ضخها في خطوط المياه الجوفية، ما يُنذر بكارثة صحية وخطر يهدد حياة المواطنين -كما يُوضح أبو شعر-، كما أن عدم قدرة طواقم البلدية الوصولَ إلى محطة المعالجة المركزية في صوفا، دفعها لتحويل المياه الخام غير المُعالجة وصرفها في البحر، ما يعني كارثة بيئية حقيقة.
وأشار إلى أن البلدية حصلت على تمويل من اليونيسيف بملغ 250 ألف دولار، مَكَّنَتْهَا من تصليح 3 محطات من أصل 6 أخرى مدمرة، و"تسليك" 2000 متر من الخطوط، وتصليح ما يقارب 30 نقطة تجميع وخطوط ناقلة.
إغلاق المعابر، ومنع الاحتلال إدخالَ الوقود والسولار إلى القطاع، وتهالك الآليات وعدم توفر المعدات اللازمة لصيانتها، إضافةً إلى استمرار انقطاع التيار الكهربائي منذ 9 أشهر، عوامل اجتمعت للحيلولة دون قدرة البلدية على تصليح باقي المحطات والشبكات المدمرة، أو حتى الضخ والتصريف في المحطات والشبكات التي تم تأهيلها؛ ما أدى إلى فيضان مياه الصرف الصحي في الشوارع مُشَكِّلَةً مستنقعات ضارة.
وناشد أبو شعر بضرورة التدخل الفوري العاجل لتوفير السولار وإنهاء الأزمة البيئية والحفاظ على حياة المواطنين، مُشيراً إلى أنَّ البلدية لا تألُ جهداً في تخفيف معاناة الناس حسب الإمكانيات.
وتحتاج البلدية -بحسب مسؤول قسم الصرف الصحي-، يومياً ما يقرب من 1000 لتر لتصريف مياه الصرف الصحي، يصلها منها كمية قليلة جداً، "فعلى سبيل المثال: يتم تخصيص 2000 لتر من الوقود يومياً لضخ مياه الصرف الصحي في منطقة "حسبة السمك"، مقابل 8000 لتر قبل الحرب".
وأوضح أن بلدية خانيونس شكَّلت منذ عودة السكان إلى المدينة بعد انسحاب الاحتلال منها، لجنةَ طوارئ، ووضعت الخطط لإعادة تصليح البنية التحتية وإصلاح منظومة الصرف الصحي، وإزالة النفايات ومتابعة المشكلات التي تواجه السكان، في ظل ضعف الإمكانيات المتاحة لها.
تزيد عن 4 أشهر، وهذا دليل على أن تكوُّن بكتيريا لم تكن موجودة قبل الحرب.
وتتسبب مياه الصرف الصحي في تكاثر نوع من أنواع البكتيريا العنقودية التي تصيب الجلد، وهو ما يفسر إصابة الكثير من النازحين بـ"الحساسية" "والطفح الجلدي".
ويضيف: "كما تسبب مياه الصرف الصحي التهابات رئوية حادة لدى المصابين، وهناك عدة حالات نرى أنها أُصيبت بمرض "الكوليرا"، ولكن بسبب عدم توفر التحاليل الطبية اللازمة ونقص الإمدادات الطبية لم نستطع الجزم بذلك".
ويرى د. أبو محسن أن "الوقاية خير من العلاج"، وينصح بالمواظبة على تعقيم الأيدي بالجل الكحولي، وغسل اليدين بالماء والصابون باستمرار، وعدم تناول الطعام المكشوف، وغسل الخضروات جيداً بالماء والصابون، وطهي الطعام جيداً قبل أكله، كما ينصح المريض المصاب بالإسهال والنزلات المعوية وخصوصاً "اليرقان" بالعزل لمدة 10 أيام متتالية.
وأشار رئيس قسم الباطنة في مجمع ناصر الطبي، إلى أن نسبة العلاجات المتوفرة في المستشفى وصلت إلى 30% من نسبتها قبل الحرب، والتحاليل الطبية إلى 20%، والصور التلفزيونية والإشعاعية إلى 50%، مؤكداً أن "العلاجات الموجودة تُعتبر قليلة الفاعلية" وأن "الأدوية التي تأتي على شكل مساعدات ما هي إلا ذر للرماد في العيون ولا فائدة كبيرة تُرجى منها".