لم يكن أمامهم خيار حينما اشتدت شراسة حرب الإبادة في قطاع غزة إلا أن يجدوا طريقاً لتفادي الموت، نزحوا بعيداً بحثاً عن توفير الأمن لهم ولعائلاتهم نحو دول عدة انتظارا كي تضع الحرب أوزارها، لكنهم فوجئوا أن بعض شركات في القطاع الخاص التي يعملون لديها قد أوقفت رواتبهم واستبدلتها بسلف مقطوعة.
يتنوع هؤلاء بين عاملين لدى شركات كبرى منها خدمية وأخرى مختصة في الاقراض الصغير وبعضها في النطاق الصحي، مراكز هذه الشركات في الضفة الغربية ورغم ما تعرضت له من خسائر بسبب الحرب، غير أن بياناتها المالية أظهرت أنها حققت أرباحاً وإن كانت أقل من حجم الأرباح المتحققة في السنوات السابقة.
موظفون: "أكلونا لحمة ورمونا عظمة"
وأكد بعض الموظفين ممن يعملون في شركات اتصال هاتفية أن هذه الشركات أوقفت رواتب نحو 120 موظفا أي نحو ثلث كادرها الوظيفي في قطاع غزة، مشيرين إلى أن هؤلاء الموظفين هربوا من الموت في قطاع غزة إلى مصر أو تركيا أو بعض الدول الأوروبية، انتظارا أن تضع الحرب أوزارها.
يقول (أ.م) الموظف: "لقد أكلونا لحما ورمونا عظما، حققوا ملايين الدولارات من غزة على شكل أرباح على مدى 25 عاما، واليوم يتركون موظفيهم".
بدوره، يقول (ع.أ) وهو موظف في احدى شركات الاتصالات "حينما خرجنا من قطاع غزة بعد مرور نحو 4 أشهر على بدء الحرب، لم يكن أمامنا خيار سوى الخروج من جحيم الحرب، وبعد معاناة كبيرة، تعرض خلالها منزله للقصف والدمار، ونجت عائلته من الموت بأعجوبة أكثر من مرة".
ويشير إلى أن عدد موظفي هذه الشركة الذين غادروا قطاع غزة يتراوح بين 130 - 135 موظفا خرجوا على مراحل، منوها إلى أن معظم الموظفين أبلغوا مسؤوليهم بأنهم سوف يغادرون قطاع غزة، فتلقوا إشارات إيجابية منهم (ليست مكتوبة) بأنه لن يقع عليهم إجراءات إدارية، لكنهم فوجئوا لاحقاً بتوقيف رواتبهم وصرف مبالغ مقطوعة تصل بين 45-55% من الراتب.
ويضيف" لم يكن هناك أي تعميم من الشركة تفيد بأن الموظف اذي سيخرج من غزة سيتم ايقاف راتبه، ولكنهم حاليا يصرفون لنا مبالغ مقطوعة(سلفة) تتراوح بين 500 الى 1000 دولار حسب قيمة راتبه"، لكنها لا تشكل أكثر من 50% من إجمالي الرواتب عموماً، منوها إلى أن هذه النسبة لا تكفي للايفاء بالتزاماتهم في الغربة إلى حين عودتهم إلى وطنهم بعد انتهاء الحرب.
يشار إلى أن شركة مجموعة الاتصالات مستمرة في صرف رواتب موظفيها العاملين في قطاع غزة رغم انقطاع أعمالهم في ظل الحرب، لكنها أوقفت رواتب موظفيها الذين خرجوا من قطاع غزة، وهو إجراء ذهبت إليه بعض الشركات الأخرى، لكن معظم الشركات الكبرى مستمرة في صرف رواتب موظفيها بشكل كامل حتى رواتب الذين غادروا قطاع غزة مثل بنك فلسطين.
ورغم أن بعض الشركات قدمت عروض إنهاء خدمات خلال السنوات الأخيرة، لكنها رفضت مؤخراً عروضات لإنهاء خدمات في ظل الحرب، ويقول أحد الموظفين"هم يرفضون تقديم عروض إنهاء الخدمات، لأنهم يدفعون الموظفين إلى الاستقالة لتقليل مكافأة نهاية الخدمة".
قرارات نافذة من مجلس الإدارة
وفي سياق متصل، فإن ثمانية موظفين يعملون لدى شركة فلسطينية للإقراض والتنمية قطعت رواتبهم بعد مغادرتهم قطاع غزة، واعتبرتهم الشركة في "إجازة بلا راتب".
وتلقى الموظفون رسالة من الموارد البشرية في الشركة تعلمهم بأن قرار اعتبارهم في "إجازة بلا راتب" هو قرار نهائي من مجلس الإدارة ونافذ، وقد تم التوافق عليه حسب الأصول. وجاء في الرد"التزمت الشركة من اليوم الأول للعدوان رغم كل الظروف بتحويل الرواتب لجميع الموظفين مع كامل الامتيازات وفق العقد المبرم بين الطرفين حتى يومنا هذا، أي ستة أشهر كاملة".
وتابعت الرسالة" هذا وقد قامت عديد من الشركات الفلسطينية بشكل عام وعديد من شركات القطاع المالي وشركات الإقراض بشكل خاص بإيقاف رواتب من يغادر غزة، وأخرى أوقفت جميع رواتب من هم فيها أصلا".
لكن رد الشركة لم يقنع موظفيها الذين حُولوا إلى "إجازة بلا راتب"، مشيرين إلى أن أعمال المؤسسات المالية متوقفة في غزة ولا فرق بين من فيها وبين من غادرها، منوهين إلى أن شركات أخرى مالية لم تلجأ إلى هذا الخيار وأبقت على رواتب الموظفين حتى اؤلئك الذين غادروا قطاع غزة فهم فعلوا ذلك قسراً ولم يكن خياراً.
الشركات: لا يمكن المساواة بين من غادر غزة ومن بقي فيها
من جهتها، دافعت الشركات عن قراراتها، مؤكدة أنها ذهبت إلى هذا الخيار مضطرة لوقف النزيف المالي، خاصة أنها تعرضت لخسائر كبيرة في قطاع غزة.
ويقول أنور جيوسي الرئيس التنفيذي للشركة الفلسطينية للإقراض والتنمية(فاتن) إن الشركة رغم أنها تلقت خسائر كبيرة من خلال فقدان نحو27 مليون دولار هي قيمة قروضها المتعثرة في قطاع غزة، غير أنها مستمرة في صرف رواتب موظفيها هناك والبالغ عددهم نحو 40 موظفا، مشيراً إلى أن الخسائر لا تشمل الدمار الذي لحق بالأصول والتي لم يجر حصرها لغاية اللحظة.
ولفت إلى أن الشركة فقدت نحو 62% من حقوق الملكية في قطاع غزة، منوهاً إلى أن الشركة ذهبت إلى سلسلة إجراءات تقشفية شملت المصاريف التشغيلية في الضفة، وكذلك عدم توظيف أيدي عاملة جديدة إذا ما استقال موظف، بهدف وقف النزيف المالي والحفاظ على ديمومة الشركة، منوهاً إلى أن قيمة الفاتورة الشهرية لموظفي الشركة(في الضفة وغزة) تصل إلى 300 ألف دولار.
وأضاف"رغم الضغوطات المالية والإجراءات التقشفية التي اتخذها مجلس الإدارة غير أننا لم نذهب إلى قطع رواتب موظفين، فنحن مستمرون في صرف رواتب الموظفين في قطاع غزة رغم توقفهم عن العمل انطلاقاً من مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية، ولكن لا يمكن المساواة بين من بقوا في قطاع غزة في ظل الحرب، وبين من غادروها"، منوها إلى أن الذين خرجوا من غزة هم من ميسوري الحال متهما موظفة باتباع أساليب "غير أخلاقية" من خلال تنظيم "حملات تسول" عبر وسائل التواصل الاجتماعي جنت من خلالها أموالاً طائلة رغم أنها ميسورة الحال. (أبرز وثائق تدعم هذه الرواية).
وتابع" هؤلاء الموظفون غادروا قطاع غزة دون أن يبلغونا، وهذا مخالف للقانون، ولم نعرف أنهم غادروا إلا بالصدفة بعد أن احتج الموظفون في غزة على ذلك".
ورفض بعض الموظفين الذين غادروا قطاع غزة تبرير قرار وقف رواتبهم لكونهم "ميسوري الحال"، مشيرين إلى أنهم من الطبقة الوسطى ولم يغادروا قطاع غزة إلا مضطرين بسبب فقدان الأمان، وكثير منهم استدان أموالاً أو باع ادخارات بهدف تأمين الخروج.
أما فيما يتعلق بتنظيم بعض الموظفين لحملات تبرع تسيء للشركات، فأكد موظفون بأنه إن ثبت ذلك فإنها تسيء للقائمين عليها ويمكن محاسبتهم بشكل شخصي لا تعميم الحالة على الموظفين كافة، مشيرين إلى أن الشركة رفضت فكرة تفرغهم للعمل لصالح الشركة من الخارج، رغم أن كل الموظفين الموجودين في قطاع غزة حاليا لا يعملون بسبب ظروف الحرب. وأَضاف موظف"ليس صحيحاً أنهم عرفوا بخروجنا من قطاع غزة بالصدفة، بل قمنا بإبلاغ مسؤولينا وهذا مثبت على الجروبات الخاصة بالشركة".
بدورها، تقول الدكتورة الصيدلانية ديانا عوكل(27) عاماً من قطاع غزة بأنها كانت تعمل لدى احدى شركات الأدوية ومقرها الرئيسي برام الله، إنها بدأت بالعمل مع الشركة في شهر حزيران 2022، واستمرت في تلقي راتبها حتى غادرت القطاع إلى مصر، إذ تم توقيف راتبها ابتداء من شهر كانون الثاني الماضي، دون أن يتم إعلامها بذلك من قبل مالية الشركة. وتضيف"عرفت بالصدفة بعد مرور شهرين عن طريق زميل لي، فقد ظننت أن هناك تأخيراً بسيطاً في الراتب"، مشيرة إلى أن الشركة التزمت بصرف رواتب زملائها الثلاثة الذين بقوا في القطاع بكون أن الشركة تقوم بواجبها الإنساني.
وتشير إلى أنها تواصلت مع مدير المالية مرتين ولم يرد عليها، وفي شهر نيسان الماضي أي بعد مرور أربعة شهور من ايقافها عن العمل، أخبرها مدير المالية أنه تم تجميد عملها بالشركة وأنهم ملتزمون معها في حال استئناف الشركة لعملها في قطاع غزة. وتوجه معدو التحقيق إلى إدارة الشركة التي فضلت عدم الحديث في هذا الموضوع خلال الفترة الحالية لخصوصية الحالة.
ورغم وعودات تلقيناها بإجراء لقاء للحصول على معلومات من أحد شركات الاتصالات والاستماع إلى وجهة نظرها في الموضوع، غير أنها فضلت عدم الحديث مكتفية بالقول بأن الوقت غير ملائم حاليا للحديث في هذا الموضوع كون أن الناس ستفسر هذه القرارات على نحو سلبي. وستقوم "الحياة الاقتصادية" بنشر رد الشركة في حالة توفره.
القانون في صالح الشركات
تؤكد بثينة سالم وكيل مساعد سياسات قطاع العمل وخبيرة قانونية في وزارة العمل أن القاعدة القانونية الأساسية أن "الأجر مقابل العمل"، مشيرة إلى أن الحالة التي يمر بها قطاع غزة غير مسبوقة ألحقت الضرر بالموظفين والشركات على حد سواء.
ونوهت إلى أن وزارة العمل دوماً توجه نحو الالتزام الأخلاقي والوطني في هذا السياق، لافتة إلى أهمية تحمل هذه الفترة الصعبة حتى تنتهي ظروف الحرب وتداعياتها وأن يعود المواطنون إلى حياتهم الطبيعية يستطيعون خلالها البحث عن فرص عمل جديدة في حال تسريحهم.
وأضافت"لا يوجد نص في قانون العمل يلزم الشركات بدفع الراواتب، طالما لا يلتحق الموظفون بعملهم"، لكن الوزارة تؤكد على الدور الأخلاقي والوطني في هذه الظروف العصيبة.
وكانت البيانات المالية لمعظم الشركات الكبرى المدرجة في بورصة فلسطين أشارت إلى تحقيقها أرباحا في العام2023 رغم ظروف الحرب، فعلى سبيل المثال حققت مجموعة الاتصالات الفلسطينية حسسب البيانات المالية غير المدققة ربحا بقيمة 43.3 مليون دينار، مقارنة مع 57.1 مليون دينار في العام 2022.
كما بلغ صافي أرباح الشركة بعد الضريبة خلال فترة الربع الاول من هذا العام 6,242,000 دينار ، مقارنة مع صافي أرباح بعد الضريبة بمقدار 11,311,000 دينار أردني للفترة نفسها من العام 2023 بانخفاض بلغت نسبته 44.81%.