"صلوا صلاةَ مُودِّع" قالها الإمام بصوتٍ مليءٍ بالخشوعِ والوقار بعد أنِ استوى المصلون، وانتظمت الصفوف، لأداء صلاة الفجر في مصلى مدرسة التابعين بمدينة غزة، ثم استقبل القبلةَ.. وقتذاك كان الخوف من غدر الاحتلال يسيطر على الجميع، لجأَ النازحون الذين بلغت قلوبهم الحناجر، إلى ربهم؛ راجين منه أن يفرج كربهم، ويدحر عدوهم، ويمدهم بالعون والتمكين.. كانت السماء مظلمة، وكأنها تُعلن الحداد قبل وقوع المجزرة.. وما أن كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام "الله أكبر"، حتى توقف الزمن، وامتلأ الهواء برائحة البارود، وتناثرت أشلاؤهم جميعاً في المكان، جدران المسجد أصبح رماداً، كل شيءٍ أصبح رماداً، إثر استهداف طائرات الاحتلال الإسرائيلي لهم بصواريخ ثقيلة أمريكية الصنع.
كَسرت أصواتُ الانفجار سكينةَ الفجر، وهزّت منطقةَ "حيِّ الدرج" وسط مدينة غزة بالكامل، وتناثرت الشظايا في كل مكان، وأحالت أعمدةُ النيران وسُحب الدخان المتصاعدة ظلمةَ السماء إلى شهبٍ ملتهبةٍ.. في تلك اللحظة تبعثرت أجساد المصلين، وانسلخ اللحم عن العظم، كانت الدماء النازفة بغزارة تغطي الأرض، واختلط ما تبقى من أشلاء المصلين وقطع أجسادهم المتناثرة بالركام، تناثرت صفحات القرآن الكريم الممزقة وصُبِغت بالأحمر القاني؛ ليتحول المصلى الذي كان منذ لحظاتٍ قليلة مكاناً للأمان والطمأنينة وإقامة الشعائر الدينية، إلى ساحة للدمار وإزهاق الأرواح ومقبرة جماعية، ويكون شاهداً جديداً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومجازره المستمرة منذ أكثر من 10 أشهر.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
وقالت وزارة الصحة الفلسطينية إن ما لا يقل عن 100 شخص استشهدوا وأصيب نحو 260 في غارات جوية استهدفت مدرسة للنازحين في مدينة غزة، في واحدة من المجازر الكبيرة التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي في سياق حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على قطاع غزة.
وأوضح "محمد المغير" مدير دائرة الإمداد في جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، أن ثلاثة صواريخ حربية أمريكية الصنع بينها على الأقل صاروخ واحد من نوع MK-84 التي تزن 200 رطل، كانت كفيلة بدك مبنى مدرسة التابعين الذي يأوي نازحين، وتحويل أجساد بعض الشهداء إلى أشلاء صغيرة متناثرة، وتفحم البعض الآخر.
وأضاف "المغير" في تصريحات صحفية، أن الصواريخ الحرارية المستخدمة في القصف ذات قوة انفجارية هائلة، كما تصدر درجات حرارة عالية تصل إلى 7 آلاف درجة مئوية، ما يتسبب في تحويل أجساد الأشخاص المستهدفين بها إلى أشلاء مع ذوبانها تماماً، مشيراً إلى أن انتشال أكثر من 100 شهيد، ووجود نحو 60 شهيداً، تعمل طواقم الدفاع على انتشالهم.
لابسةً ثوب الحداد، أشرقت سماء ذلك اليوم الحزين، وبدأ الأهالي المكلومين يبحثون عن جثث ذويهم وسط أطنان الأنقاض.. في تلك اللحظات المؤلمة كانت الطفلة مرام الجعبري، تسير باحثةً عن جثة أبيها وأخيها وعمها، وإذ هي كذلك حتى رأتهم أشلاءً متناثرين، "شفت الأشلاء والدم ع الأرض.. المنظر كان مرعب بخوف كثير، الشهداء مقطعين ومن بينهم أبوي وأخوي وعمي وأولاد عمي" قالتها بقلبٍ احتلته ألام الفقد والفراق، وعيونٍ انهمرت منها الدموع كالمطر.
"أبو وسيم"، وهو أحد سكان المنطقة الذين وصلوا موقع المجزرة في ساعات الفجر الأولى، قال إنَّ: "الاستهداف وقع دون سابق إنذار، ولم ينج أحد من الذين كانوا داخل المسجد، وحتى الطابق العلوي الذي كانت تنام فيه النساء والأطفال لم يسلم من الدمار".
يمسك "أبو علي" والد الطفل ذو الستة أعوام، بكيس ممتلئ بالأشلاء والدماء، استلمه من مشفى المعمداني حينما سأل عن جثة نجله.
إلى المصلى انطلق "علي" سَابقاً والدَه -الذي تأخر للوضوء-، وما هي إلا لحظات معدودة وإذ بـ ٣ صواريخ أمريكية تزن 2000 طن تسقط على جموع المصلين وتحطم جدرانه بالكامل.
يقول والد الطفل الشهيد، حين سأل عن جثة ابنه: "حكتلهم عُمر "علي" ٦ سنين أعطوني كيس 18 كيلو فيه أشلاء، وحكولي روح ادفـن أشلاء بعرفش إذا كانت لابني ولا لأ (...)".
ووثقت مقاطع مصورة متداولة، مشاهد قاسية وصادمة، أظهرت أشلاء لأجساد متناثرة، وصرح مدير مستشفى المعمداني “التعرف على 70 من شهداء مجزرة مدرسة التابعين حتى الآن والبقية عبارة عن كوم من الأشلاء يصعب تحديد هويات أصحابها”.
وقال المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة إن الاحتلال الإسرائيلي قصف مدرسة تؤوي نازحين بـ3 صواريخ يزن كل واحد منها ألفي رطل من المتفجرات.
وأكد أن جيش الاحتلال كان يعلم بوجود النازحين داخل المدرسة، وأن رواية الجيش الإسرائيلي لما حدث مليئة بالأكاذيب والمعلومات المزيفة، وأنه يسعى من خلال بياناته الزائفة تبرير جرائمه في حق شعبنا، مضيفاً: "نجد صعوبة بالغة في نقل جثامين الشهداء وأجزاء الجرحى المتقطعة".
ومن جهته، قال الناطق باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل إن الاحتلال الإسرائيلي قصف مدرسة التابعين في حي الدرج بـ3 صواريخ في مجزرة بحق نازحين كانوا يؤدون صلاة الفجر في المدرسة.
وأضاف أن القصف أدى إلى استشهاد قرابة 90% ممن كانوا يؤدون الصلاة، كما أن الإصابات معظمها بليغة جدا.
وأوضح الدفاع المدني في القطاع إن الاحتلال استهدف في المدرسة طابقين، الأول كان يؤوي النساء والأرضي كان مصلى للنازحين.
وأشار إلى أن الاحتلال استهدف 13 مركزا لإيواء النازحين منذ بداية الشهر الحالي، وطالب العالم بالتدخل الفوري لوقف المجازر ضد المدنيين العزل في مراكز الإيواء.