كأنًّ شيئَّا يسحبها نحو الأسفل، وقد وقعت أقدامها بين رمال متحركة، تتخبط بين الردم وتشعر بارتطام الحجارة بجسدها، رأت وميضًا أحمر سرعان ما اختفى على وقع صوت انفجار هز أرجاء البيت، ابتلعت كمية هائلة من الغبار وأصبح المكان حالك بالظلام، ثوانِ معدودة جعلت الفتاة ديما عماد عقل (15 عامًا) تعيش لحظات مرعبة جدًا.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
صوت ديما بالكاد يستطيع المناداة على والديها وإخوتها، حاولت استجماع قوتها، وتمكنت بعد محاولات عدة إخراج أصابعها لتزيل الركام المتناثر فوق رأسها، تتحسس الأرض باحثة عن ضوء أو كشاف هاتفها دون جدوى، لتجد نفسها محاطة بالحجارة وأعمدة المنزل الذي تهاوى يوم الجمعة بتاريخ (الثاني عشر من يوليو/تموز 2024) بقصف إسرائيلي لمنزل والدها عماد عقل في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.
أخذت ديما نفسًا طويلًا وسط السواد الحالك، وبدأت تزيل الركام عن جسدها محاولة اختراق الجدران؛ لكن محاولاتها دون أن تحقق أي اختراق يذكر، تقول لمراسل "شمس نيوز": "كنتُ أسفل ركام المنزل، الأعمدة والجدران والرمال فوق جسدي، حاولت الزحف، شعرت بالاختناق، أخذت نفسًا طويلًا، اعتقدت للوهلة الأولى أنني طرت خارج المنزل".
استمر مشهد ديما وهي مدفونة تحت أعمدة المنزل مدة تصل إلى 3 ساعات، "كنتُ مدفونة تحت الأعمدة وعندما سمعت صوت الجيران صرخت بأعلى صوتي، ثم خرجت بصعوبة بالغة وبحروق وجروح في كافة أنحاء جسدي أتذكر ذراعي الذي أزلت به الرمال من فوق رأسه كان عبارة عن عظم فقط، فاللحم قد حرق وتقطع".
تعود ديما التي تمكث على سرير المستشفى بشريط ذاكرتها إلى الليلة الأخيرة داخل المنزل، "الوضع كان هادئًا جدًا، وأفراد العائلة سبقوني على سجادة الصلاة؛ لأداء فريضة العشاء، أما أنا فقد تأخرت قليلًا في وضوئي".
ثوانٍ قليلة بعد إسباغ ديما لوضوئها، ثم أدارت وجهها صوب غرفة الضيافة التي تُصلي فيها العائلة متقدمة خطوة تلو خطوة، تقول: "توقفت عن السير عندما سمعت صوت صاروخ نازل، كان سريعًا جدًا وفجأة انفجر الصاروخ، حينها شاهدت وميضًا أحمر ثم حل السواد، كنت مدفونة تحت الأحزمة والأعمدة والحجارة شعرت بالموت أكثر من المرة؛ لكن قدر الله أن أنقذني من تحت الركام بعد 3 ساعات تقريبًا وجدت نفسي ملقاة على أرضية قسم الاستقبال في مستشفى شهداء الأقصى".
تُدير ديما رأسها يمنى ويسرى، محاولة انتشال بقية التفاصيل المؤلمة من الذاكرة لمراسل "شمس نيوز": "بحثت عن أمي وأبي وإخوتي محمود وبلال وأحمد وريما وجدي زكي، لكن لم أجد سوى أجساد ملفوفة بالنايلون ملقاة بجانبي، حاولت رفع جسدي لأتفقد أسرتي لكن لم أستطع".
من بعيد تمكنت ديما من رؤية شقيقتها الصغيرة ريما، تسألها: "أين أمي؟ أين أبي؟، تجيبها الصغيرة والدموع تجري على خدها "هيهم!"، كانت تشير إلى الأجساد الملفوفة بالنايلون على يمينها ويسارها، تسارعت دقات قلب ريما وهي تردد بلسانها: "والله مش عارف وين أمي وأبي، فش ملامح، بس كنت أسمع صوت الآهات والأوجاع".
الحزن يملأ قلبها، وهي تحاول استعادة جزء من التفاصيل في ذاكرتها، "وضعوا ريما ومحمود وأحمد في العناية المكثفة لصعوبة إصابتهم، بينما أبي وأمي وبلال وجدي زكي طلعوهم في قسم القلب لمتابعة أوضاعهم الصحية، فقد وصف الأطباء حروق أبناء العائلة ما بين "75% إلى 80%" من الدرجة الثالثة، أما أنا فقد أصبت بكسور في الحوض والقدم وحروق في أنحاء مختلفة من جسدي".
لم تقوَ ديما على مواجهة الحزن والألم، فبيدها اليسرى تحاول إزالة بعض قطرات الدمع التي تجري على وجنتيها، وتكمل قصتها بصوت بالكاد يُسمع "كانت إصابة بلال أخف إصابة؛ لكن تعرض لتسمم ما أدى لاستشهاده، وبعد يومين استشهد والدي الذي لم يستطع مواجهة الإصابة، وبعد يومين آخرين أبت أمي إلا أن تلحق بهم وبعد نحو 5 أيام استشهد محمود وأحمد وجدي زكي".
تماسكت ديما قليلًا ثم انفجرت وهي تقول: "ماش حرام محمود عمره 5 سنوات يموت هيك، شفنا اكثير أنواع من الموت، سواء بالقصف أو البتر أو تقطيع أو بالرصاص لكن بالحرق والله حرام"، وأشارت إلى أن السبب وراء استشهاد جميع أفراد الأسرة يعود لقلة الإمكانيات في المستشفى، لم أتخيل مطلقًا أن مصاب حروق -يعني جسده مفتوح- يبقى على أرضية الاستقبال لساعات عدة هذا يسبب له مضاعفات ويسهل دخول الميكروبات والجراثيم إلى جسده".
وعلى بعد أمتار قليلة من سرير ديما داخل قسم القلب في مستشفى شهداء الأقصى، تجلس شقيقتها الصغيرة ريما على سرير آخر، وهي تُمسك بأصابعها المحترقة أقلام التلوين، وأمامها دفاتر رسم وطاولة زرقاء في محاولة لتخفيف هول الصدمة التي تعرضت لها الفتاتين.
كل ما تتذكره ريما أن انفجار كبير، لحقه وميض أحمر ثم أسود، أدى إلى اهتزاز المنزل وتساقط عمدانه، وجدرانه تقول: "كنت مدفونة تحت الردم وبصعوبة تمكنت من إزالة الركام والخروج نحو منزل عمي"، صوت سيارات الإسعاف ووميض الفانوس منذ اللحظة الأولى للقصف الإسرائيلي للمنزل.
انتقلت ريما إلى سيارة الإسعاف التي أدارت عجلاتها بسرعة فائقة نحو مستشفى الأقصى لتلقي العلاج اللازم، قبل أن تدرك الصغيرة أن جميع أسرتها أصيبت بحروق صعبة جدًا من الدرجة الثالثة.
لم تدرك ريما أن والديها وإخوتها وجدها استشهدوا جميعا متأثرين بإصابتهم بالحروق، وبعد نحو أسبوع أو أسبوعين تم إخبارها بالحدث المؤلم، تقول ابنة خالتها: "الوضع كان صعب جدًا لم نخبرها بأن والديها استشهدوا، وعندما علمت بذلك أصيبت بصدمة، طول الليل وهي اتعيط وتحكي مع حالها وتبكي بحرقة، حرقت قلوبنا".
حاولت ابنة خالتها تهدئة أعصابها فجلبت لها الكثير من الألوان ودفاتر الرسم في محاولة لتفريغ طاقتها بممارسة هوايتها الجميلة، وكل ما تأمله الصغيرة ريما وشقيقتها الفتاة ديما هو وقف الحرب والخروج من قطاع غزة لتلقي العلاج اللازم في المستشفيات.