ما هذا؟.. يا الله!.. الدماء متناثرة في كل مكان، جثامين المصلين مقطعة، لا يوجد أسوار داخل المصلى كلها أضحت رمادًا وركامًا، هنالك على المدخل الذي اكتسى بالسواد الأعظم يجلس رجلٌ في التسعينيات من عمره على كرسي متنقل دون أيِّ حراك، عيناه جاحظتان دون أن ترمشا ولو لثانية، فمه مفتوح لا يغلقه، ذراعه متشبثة بعصى يتكئ عليها وله فيها مآرب أخرى.
صوت الآهات تتعالى بينما العشرات يهرعون صوب المصلى ليتفقدوا أحبابهم، وما زال الرجل جالسًا على هيئته دون أي تغيير يذكر، يحمل الشبان ما تبقى من أجساد المصلين يصرخون "الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل"، بعدها بـ 5 دقائق سمع صوت سيارات الإسعاف وقد أضاء فانوسها ساحة المدرسة المعتمة.
أحدهم ينادي بأعلى صوته بوجه المسعفين ويشير بإصبعه: "هي رجل على قيد الحياة"، كان العثور عليه بين عشرات الأجساد التي حُرقت وقُطِّعت أطرافها بشظايا صواريخ الاحتلال الإسرائيلي بمثابة الكنز، أحاط الجميع به، حاول البعض الحديث معه؛ فأجابهم بصمته المريب وصدمته المخيفة جدًا.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
الرجل هو فايز الجعبري (93 عامًا) -يُكنى بـ"أبو نبيل" أُصيب بصدمة مروعة شلت أركانه كاملة، وبات صامتًا للأبد؛ إلا أن صورته ستبقى الشاهد المؤلم على مجزرة الاحتلال الإسرائيلي باستهداف المصلين فجرًا داخل مصلى مدرسة التابعين وسط مدينة غزة، فقد عاش ظروفًا استثنائية في حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" منذ السابع من أكتوبر ضد سكان القطاع، حيث حُوصر مرتين، وَأٌسِر، وأُصِيب عدد من أبنائه وأحفاده، ونزح مرات عدة داخل مدينة غزة، إلى أن استُشهد.
ولد الجعبري في حي الشجاعية، ويُعَدُّ في العمر أكبر من قيام دولة "إسرائيل"، وأنجب (6 ذكور و5 إناث) استشهد منهم ثلاثة أبناء واعتُقِل اثنان، فيما انتقل الأخير "محمد" إلى جنوب وادي غزة، أما الإناث فقد تشتتن، ثلاثة منهن في الشمال، واثنتان في الجنوب.
عاش الجعبري طوال حياته عاملًا في الزراعة والبناء، وكان مثالًا للصمود والثبات والإصرار التي تميز بها منذ اندلاع حرب الإبادة (في السابع من أكتوبر 2023)، فرغم تجاوزه حاجز التسعين من العمر إلا أنه تحدى المحتل بالبقاء في حي الشجاعية مسقط رأسه ومدينة غزة ضاربًا تهديدات الاحتلال وقرارات الإخلاء عرض الحائط.
حصارٌ ثم اعتقال
أصرَّ الجعبري ونجله الكبير نبيل، وابنته أم محمود وعدد من أفراد العائلة خلال الاجتياح البري الثاني لحي الشجاعية شرق مدينة غزة، على البقاء في بيتهم كغرس شجر الزيتون الثابت في باطن الأرض، تقول أم محمود: "أصر والدي على البقاء في المنزل خاصة وأن جيش الاحتلال اقتحم حي الشجاعية فجأة دون سابق انذار ووالدي طاعن في السن ولا يستطيع السير بسرعة لمسافات طويلة".
صوت جنازير دبابات الاحتلال المصفحة تقترب رويدًا رويدًا، وسط إطلاق نار كثيف، حينها فرض جيش الاحتلال حصارًا محكمًا حول المنزل، ساعات عدة مُنع خلالها أبو نبيل ومن معه من الطعام والشراب، وباتت حياتهم مهددة بالموت جوعًا.
"اطلعوا من هون، المكان محاصر" قالها جندي إسرائيلي قاتل بعد ساعات من حصار المنزل، اضطرت العائلة للخروج رافعين أيديهم عالية، قرر الجنود وأمام عين أبو نبيل إطلاق الرصاص على جسد نجله الكبير "نبيل"، كانت الدماء تنهمر كالنهر من قدمه بينما تراقب أم محمود من بعيد المشهد المؤلم وهي تقول: "حسبي الله ونعم الوكيل".
كانت أم محمود تتجه غرب مدينة غزة بعيدة عن حي الشجاعية بينما قلبها ما زال يشتعل نارًا على والدها وشقيقها الأكبر نبيل، تقول لمراسل "شمس نيوز": "الجيش أطلق النار على نبيل واعتقله هو ووالدي وأمرنا بمغادرة الشجاعية تحت الرصاص، غربًا أو جنوب وادي غزة وقررنا التوجه غربًا لمدرسة التابعين حيث باقي أبناء العائلة".
ساعات مرت كأنها ألف سنة على قلب أم محمود التي تنتظر خبرًا عن والدها وشقيقها وزوج شقيقتها الذي اعتقل في الحادثة نفسها تقول: "مكثتُ انتظر يومًا كاملًا حتى وصلنا خبرٌ بأن والدي في مستشفى المعمداني فتوجهنا فورًا دون انتظار".
"جلستُ مع والدي فكان مصدومًا من هول المشهد ولم يتفوه بكلمة واحدة، رأيتُ نبيل كان مضروبًا بشدة وقسوة لا تنم إلا عن مجرمين، فقد اقتادهم جيش الاحتلال لموقع ناحل العوز وحققوا معهم وتعرضوا للضرب المبرح وبعد يوم من التحقيق والضرب والإهانة أطلق الجيش سراحهم على الخط الشرقي لحي الشجاعية، وسار أبي الطاعن في السن مسافة تزيد عن 5 كيلو وصولًا لمستشفى المعمداني لتلقي العلاج اللازم".
مجزرة الفجر
لم يمكث أبو نبيل طويلًا داخل أسوار المستشفى التي تلقت عشرات الشهداء والجرحى نتيجة الاستهداف الإسرائيلي المكثف لحي الشجاعية، فقررت ابنته أم محمود الذهاب به إلى مدرسة التابعين، إذ إن ما تبقى من أبناء العائلة اعتقدوا أنها ملجأ قد يوفر لهم الحماية من قصف الاحتلال وغدره.
ترصد أم محمود بعينيها حركة والدها الذي يجلس مصدومًا من هول ما شاهده، فتقول: "من يوم ما إجا على مدرسة التابعين بعد اقتحام الشجاعية وحالته ازدادت سوءًا، لم يأكل ولم يشرب ولم يتفوه بكلمة، فقط جالس على الكرسي مصدوم، فقد تعرض للإهانة، وشاهد اعتداء جيش الاحتلال على نجله نبيل".
واعتاد "أبو نبيل" أداء فريضة الصلاة في مصلى مدرسة التابعين، والجلوس قرب المتوضأ عله يستعيد نشاطه ما قبل الحرب، ومع صوت آذان فجر السبت (10/آب/2024) حلقت طائرات الاحتلال محملة بأطنان من المتفجرات أمريكية الصنع، فوق مدرسة التابعين وألقت حمولتها مع تكبيرة الإحرام "الله أكبر"، حينها كان "أبو نبيل" متأخرًا بضعة أمتار من دخول المصلى الذي أصبح أثرًا بعد عين.
فزعت أم محمود من قوة الانفجارات المتتالية التي ضربت المكان، وأزالت بيدها اليمنى الغبار الذي غطى جسدها، وهربت مسرعة نحو ساحة المدرسة بما تمكنت من حمله لتنقذ نفسها وأطفالها، وقد امتلأت الساحة بالناس المهللين والمكبرين رغم انعدام الرؤية.
أجسادٌ مقطعة تخرج من مصلى المدرسة والصرخات تتعالى شيئًا فشيئًا، في تلك اللحظة المؤلمة تحاول أم محمود البحث عن والدها "أبو نبيل" فتسأل كل من تختلط ملابسه بالدماء والسواد، أين والدي؟، أكثر من نصف ساعة حتى تمكنت من العثور على والدها تحت ركام المصلى المدمر.
صدمة أبدية
تسيل الدموع على وجنتيها وهي تقول: "كان والدي مغطى بالحجارة ومدفونًا تحت الركام، المفاجأة لا يوجد فيه أثرٌ للدم أو للجروح فقط كان مصدومًا، فحمله بعض الناس وأجلسوه على الكرسي وهناك التقطت له الصورة المشهورة".
بقي "أبو نبيل" مصدومًا لا يستطيع التحدث بأي كلمة ولم يأكل ولم يشرب حتى توفي بعد أيام قليلة من مجزرة مدرسة التابعين؛ لتصبح صورته الصامتة شاهدة على المجزرة المروعة بحق النازحين الآمنين في مراكز الإيواء.
استشهد لـ"أبو نبيل" 4 من أحفاده في مدرسة التابعين وأُصيب 6 آخرون بجروح مختلفة، فيما استُشهد اثنان من أبنائه خلال حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" ضد سكان قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، ولديه أيضًا ثلاثة أسرى من أبنائه وأزواج بناته.