شمس نيوز- عبد الله عبد العال
ينهمر العرق من جبين "أبو العبد" كزخات المطر، تَعَاقُبُ لهيبِ الشمس وأمطار الشتاء واتحادهما مع معاناة النزوح حَوَّلْنَ رونق وجهه وصفائه إلى الشحوب، وغزت التجاعيد وجهه، وكأنَّ كل تجعيدةٍ تروي حكاية للبؤس والمعاناة، كاد التعب أن ينحت ملامحه، لكنه لا يزال يتمسك ببصيصِ أملٍ لم يخبُ حتى في أحلك الظروف زمن الإبادة..
ينشغل الرجل الأربعيني، النازح إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، في سَدِّ الثقوب أعلى سقف خيمته التي يبدو عليها ملامح الاهتراء، بوضع طبقات متفرقة من "النايلون"؛ لمنع تسرب المياه داخلها، بعد فشلها في الاختبار الأول لموسم الشتاء، التي تساقطت أمس بشكل متفرق، على مناطق مختلفة من قطاع غزة الذي يُعاني ويلات حرب الإبادة الإسرائيلية منذ أكثر من 11 شهراً.
في مخيم النصيرات، استقبلت خيام النازحين أول زائر شتوي لها "المطر"، والذي من المفترض أن يكون موسماً للخير والفرح، لكنَّ هذا اللقاء لم يكن برائحة التراب المبتلة المعتادة، بل جرس إنذار يقرع باباً جديداً للألم، وينشر رائحة المعاناة في كل شبر من تلك الخيام التي لا تقي حر الصيف، ولا تصد برد الشتاء.
"اليوم غرقنا ومحدش شعر فينا"، بهذه الكلمات البسيطة في عددها، الكبيرة في معناها ودلالاتها، بدأ "أبو العبد" حديثه لمراسل "شمس نيوز"، يقول بصوتٍ مثقلٍ بالخيبة، ومليءٌ بالهم والعجز: "كنا قد طالبنا أكثر من مرة بخيم أو شوادر لحمايتنا من أشعة الشمس، وها نحن على مشارف فصل الشتاء، ومع أول موجة أمطار، غرقت الخيام كلها"، مضيفاً: ":"أطفالنا إن لم يموتوا من الحرب فسيقتلون من عدم توفر الأمان داخل هذه الخيام المهترئة".
كلماته كانت خليطاً من الخيبة والاستسلام لواقع بات يهدد بقاءهم على قيد الحياة، وكأنما كانت القطرات الأولى تلك بمثابة نذير شؤم لشتاء آخر أكثر قسوة.
وفي خضم هذه المعاناة، أطلق "أبو العبد" مناشدته إلى العالم والجهات المعنية، بالعمل على توفير وإرسال مساعدات تضم خياماً و"شوادر"، والضغط على الاحتلال لوقف أكبر إبادة في التاريخ الإنساني الحديث.
في زاوية أخرى من المخيم ذاته، تشكو "أم سائد"، وهي امرأة استقر بها الحال وسط القطاع بعد رحلات نزوحٍ من شمال غزة، من المعاناة المتفاقمة جراء غرق خيمتها، تقول: "أصبحنا غرقى بالكامل.. خرقت الخيام، وغرقت المراحيض "الحمامات"، وأطلق الصرف الصحي فيضاناً هائلاً في ممرات الخيم.
رحلات النزوح الطويلة والشاقة التي خاضت غمارها "أم سائد" في هجرتها القسرية نحو جنوب منطقة "وداي غزة"، بدأت منذ اللحظات الأولى لتوغل قوات الاحتلال الإسرائيلي برياً في عمق شمال القطاع، إذ لجأت -في بادئ الأمر- للإيواء في مستشفى الأندونيسي بعد نسف بيتها بقذائف المدفعية الإسرائيلية، وتحت وقع الصواريخ والنيران، وانعدام سُبُل النجاة شمال القطاع، أُجْبِرَت على الهرب إلى جنوبي "الوادي".
بشق الأنفس، استطاعت "أم سائد" الحصولَ على خيمة تأوي أطفالها، وتُعاني من فقرٍ مُدقع أجبرها على بيع المخبوزات التي تحضرها يدوياً؛ لتأمينَ قوت أطفالها.
تُوضح لمراسلنا: "بيوتنا غير صالحة للسكن، وأطفالنا يتشنجون من الخوف، لا كهرباء، ولا مياه، والخيام امتلأت بالثقوب والتمزق، ويتسرب إليها المطر، نقص كبير في المواد الغذائية.. دمروا البلد وأصبحت الحياة معدومة".
في صرختها الأخيرة تنشد النازحةُ "أم سائد" الرحمةَ في عالمٍ أغلق أذنيه عن سماع أنين أهل غزة، وأعمى أنظاره عن رؤية مشاهد الإبادة والمجازر اليومية على يد آلة القتل الإسرائيلية دون أن يحرك ساكناً، تقول: "تعبنا.. بكفي، حسوا فينا يا عالم.. الاحتلال يقتلنا ويريد تهجيرنا من أرضنا كما حصل خلال النكبة عام 1948م"، وختمت حديثها: "متى سينتهي هذا الجحيم؟".