منذ انتهاء العملية البرية الواسعة في مناطق جنوب قطاع غزة ووسطه، لم يبادر جيش العدو سوى إلى مهاجمة تخوم حيي الزيتون وتل الهوى، المحاذييْن تماماً لمحور «نتساريم» في وسط القطاع، فيما يواصل على مدار الساعة استهداف الشقق السكنية وتجمعات المواطنين، ضمن تكتيك «جز العشب» الذي تَكرّر ذكره على ألسنة القادة العسكريين. ويقوم هذا التكتيك على اغتيال وتدمير القدرات البشرية واللوجستية المتجدّدة للخصم، ويهدف إلى إنهاك الأخير وحرمانه من مراكمة القوة. على أن الغريب، أن اعتماده في حرب اجتثاث، كحرب «القضاء على حماس»، هو اعتراف ضمني بأنك تقاتل عشباً سيكون قادراً على النمو دائماً، على رغم جزّه المستمر، علماً أن ذلك المصطلح ظلّ رفيقاً لسنوات ما قبل الحرب، والتي تضمّنت معارك بين الحروب.
خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، لوحظ أن القصف الجوي من الطائرات الحربية، يُبنى القليل منه على معلومات استخبارية، ويفضي إلى اغتيال عناصر من المقاومة تحمل رتبة جندي، أو جندي نخبة كان قد شارك في عملية السابع من أكتوبر، لكن ماذا يعني أن يطارد جهاز «الشاباك» جندياً من النخبة، ثم يعلن عن النجاح في اغتياله في وسط خيمة أو داخل شقة سكنية يعيش فيها مع عائلته أو بين جمع من الناس في سوق شعبية؟ لا يفعل جيش الاحتلال الذي يعيش حالة من فراغ الأهداف شيئاً سوى الانتقام، أو ربما محاولة للقضاء على الشهود الذين نفّذوا «طوفان الأقصى».
وبعيداً من التفسيرات النفسية، فإن هذا السلوك لا يفلح أيضاً على طريق تحقيق الأهداف الكبرى المعلنة، إذ لن يفضي قتل 1400 مسلح يشكلون في المرحلة الحالية أولوية الأهداف، إلى تقويض القدرة البشرية المتجدّدة والنامية لحركة «حماس» وللأذرع العسكرية لفصائل المقاومة عموماً.
ويُترجِم سلوك جيش الاحتلال المتجمّد في مواقعه، المستوى الذي وصل إليه من عدم جدوى الاجتياح البري في تحقيق أي اختراق في ميزان القوى، حيث يكرّر الجيش توغّله البري للمرة الثالثة أو الرابعة في المناطق نفسها، ويلاقي في كل مرة مستوى أكثر تقدّماً من التصدي والمقاومة. وقد انعكس العمل المتكرّر في المواقع عينها التي يُعلن عن تطهيرها، حالة تذمّر وشكوى وإحباط في أوساط جنود العدو. وأضيفت إلى المشهد الميداني المعقّد، المعادلة التي دشّنتها «كتائب القسام» أخيراً، بإعدام أي أسير تحاول القوات "الإسرائيلية" تحريره بالقوة، لتلتقي هواجس القيادتين العسكرية والسياسية في "إسرائيل"، على احتمال أن تتسبّب عمليات برّية جديدة في مقتل مجموعة جديدة من الأسرى، ما سيساهم في زيادة حريق الشارع.
في خلاصة الأمر، لم تستنفد هذه الحرب نفسها فقط، بل استهلكت أهدافها غير القابلة للتحقيق، وحتى الأدوات التي تُستخدم في تحقيق الأهداف، إلى درجة تحوّلت معها محاولات رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، النفخ في روح الحرب، إلى أكذوبة عبّر عنها اللواء السابق في الجيش "الإسرائيلي"، إسحاق بريك بقوله إن "محور فيلادلفيا أكبر كذبة في تاريخ الدولة".