بتفانٍ وهمةٍ عاليةٍ، تعكفُ المعلمة "هنادي" على تعليم عدد من أطفال المرحلة الدنيا، تكوينَ الكلمات والجمل القصيرة، بعد رحلةٍ مكثفة نجحت خلالها في تعليمهم الحروف الأبجدية العربية، في مدرسة "رؤيا" التي شُيِّدت من الخيام بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، بعد أن كانت مأوى لمئات النازحين، ولكنها نبضت بالحياة ورح المثابرة والعلم والإرادة التربوية، إثر توقف العملية التعليمية بشكل كامل وتدمير المدارس والمراكز التعليمية؛ بفعل الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ قرابة العام.
بشغفٍ، تتنقل معلمة اللغة العربية بين طلبتها الصغار، الجالسين داخل خيمةٍ تحولَّت إلى غرفةٍ صفيةٍ؛ لمتابعة تحصيلهم وإنجازهم التعليمي، مُوزعةً ابتساماتٍ لا تخلو من الأمل، تُجسِّدها حقيقةً الحِكَم والمقولات المُلهمة التي عُلِّقت في كل زاوية من زوايا الخيمة الصفية.
"هنادي شراب" معلمةٌ من قطاع غزة، تحدَّت الظروف الصعبة التي مرت بها خلال الحرب العدوانية المستمرة على قطاع غزة، وحوّلت آلامها إلى أملٍ للأطفال، مُحَارِبَةً سياسة التجهيل التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي فرضها على الأجيال الفلسطينية زمن الإبادة الجماعية.
فرَّقت الحرب بين "شراب" وزوجها، بعد تدمير منزلهما، وفي بداية التوغل البري الإسرائيلي، نزحت برفقة أطفالها من شمال قطاع غزة، متوجهةً إلى جنوب وادي غزة؛ في رحلة "الموت" الأولى، وعانت الأمرَّين خلال تنقلها بين مناطق الجنوب، لتستقر في نهاية المطاف بمدينة خانيونس.
لم تكن رحلة النزوح المصيبة الأولى في حياة "شراب"، لكن استشهاد زوجها بقصف الاحتلال شمال القطاع دون إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه شكَّل المصاب الأكبر وكانت -الهدبة التي قصمت ظهر الحوت- بالنسبة لها، ودخلت في حالة اكتئاب وصدمة حادتين أثَّرت عليها بشكل كبير، قبل أن تتعالى على جراحها وتقرر الانضمام لمدرسة "رؤيا" لتعليم النشء.
تقول لمراسل "شمس نيوز": "بالرغم من كل الجراح والمصائب التي جلبها لنا الاحتلال الإسرائيلي، واستشهاد زوجي وتدمير منزلي، سنبقى صامدين وثابتين وأقوياء، وانضمامي لهذه المدرسة انطلق من إيماني العميق وثقتي المطلقة بأنه واجب ديني وأخلاقي ووطني ومهني".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
وعلى الرغم من سمو تلك الأدوار التي تنطلق منها المعلمة "هنادي"، في تربية الأجيال وتعليمهم التربوي، لكنها تقوم بدور أعظم، يتجاوز تدريس المواد التقليدية، "أنا أقوم بدور الأم والأب"، تقول هنادي بشموخ، بعد استشهاد زوجها، ورغم هذا الألم الذي يكمن في الذكريات، تتجاوز هذه المحنة لتكون مثالاً للتضحية والقوة والمثابرة.
وسط هذه الآلام، تُرافق كلمات الحمد، المعلمةَ "شراب"، فهي تشعر بأن الرضا بالله هو مفتاح القوة في مواجهة الصعاب. "الحمد يزيدنا قوة، والإيمان بالله يجعلنا نحمده في السراء والضراء، والاحتلال قد يظن أنه يكسرنا، لكنه واهم، ونحن نرى أن النصر قريب، تماماً كضوء الشمس الذي يراه البعض بعيداً ونحن نراه قريباً"، تقول بثقة.
المعلمة "هنادي" لا يقتصر دورها، داخل الخيمة الصفية، على التعليم الأكاديمي فقط، بل ترى أن واجبها يمتد ليشمل التربية الأخلاقية والدينية، توضح: "يسعى الاحتلال من خلال المجازر والإبادة التي يرتكبها شعبنا الأعزل، على تحقيق مقولته إن الكبار يموتون والصغار ينسون، ولكن هذه المجازر تزيدنا قوة وإصراراً على المقاومة، وأراهن على أن الجيل القادم سيكون أكثر وعياً وعلماً وثقافة وعقيدة، وعلى يده سيدحر الاحتلال ويتحرر المسجد الأقصى".
وترى أنها من خلال العمل متطوعةً في مدرسة "رؤيا" فإنها تخدم وطنها ودينها، إذ إن المعلم، -كما تشير-، هو حامل لواء المعرفة والعلم، ورسالته لا تقتصر على إيصال المعلومات فقط، بل تتعداها إلى تنمية القيم والأخلاق، وتكوين شخصيات قادرة على مواجهة تحديات الحياة، خصوصاً لدى شعبٍ يعيش تحت وطأة الاحتلال ويرتكب فيه أبشع المجازر والمذابح والأساليب الإجرامية. تقول: "دور المعلم يشبه دور البذرة في الأرض، يغذيها بالعلم فتزهر في عقول الطلاب وتثمر في حياتهم المستقبلية، لأنها ترتبط بالتربية والتعليم، وبناء الأجيال".
هذه الطاقة الإيجابية والصبر الأسطوري عند المعلمة "هنادي شراب"، ينعكس على طلبتها داخل الخيمة الصفية، هذه الخيمة التي كانت في الأصل رمزاً للتهجير والمعاناة، تحولت إلى ساحة للعلم والتعلم زمن الإبادة.. هنا، تتحرر الأرواح من قيود الألم، ويجد الطلبة أنفسهم أمام مثال حي للصمود والعزيمة، في كل زاوية من الخيمة، يتسرب شعاع الأمل الذي تبثه المعلمة، فيلامس قلوبهم الصغيرة، ويغذي فيها الإصرار على الحياة والعلم والكفاح والتمسك بأرضهم.
"داخل الخيمة، لا يتعلم الأطفال فقط حروفهم وأرقامهم، بل يكتسبون دروساً في الصبر التضحية والفداء والثبات، وهي طريقهم لمواجهة الاحتلال وتحرير الأرض والعرض والمقدسات" تختم المعلمة "هنادي" حديثها.