غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

ماضٍ مجيدٌ وكنوزٌ ثمينة

“رمضان أحمد" يحفظ "تاريخ غزة" من الاندثار زمن الحرب.. حضاراتٌ تحت أنقاض المتحف!

حضارات تحت أنقاض المتحف
شمس نيوز - متابعة

شمس نيوز – وليد المصري

يُمِيْطُ (يزيل) "رمضان أحمد" الغبار والرماد عن بندقيةٍ أثريةٍ، يناهز عمرها 400 عام، مزخرفة بالفسيفساء ومزينة بالخزف ومنقوشة بالفضة، مصنوعة من خشب الأبانوس، ويُقلبّها بين يديه مدققاً النظر في جوانبها كافة، ومُتفحصاً إياها بعناية؛ كونها قطعة فريدة من نوعها لا مثيل لها في العالم، تعود للحقبة العثمانية السلطانية، بعد أن نجت من ركام متحفه الذي حرقته قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال التوغل البري لمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" منذ قرابة العام. 

منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان، تعلَّق "أحمد" بالمنحوتات والقطع الأثرية، ولازم خبراء الآثار وأساتذة التاريخ القديم في الجامعات وخصوصاً الجامعة الإسلامية بغزة، ونما شغفه بها حدَّ الولع، لدرجةٍ جعلته يبيع قطعة أرض ورثها عن والده، ومنزلاً وشققاً سكنية لأبنائه؛ ليتمكن من إقامة متحفٍ لجمع الآثار ونحتها في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة ويخصص جلَّ وقته وجهده فيه، ويبرر ذلك بقوله: "غيرتي على فلسطين والهوية الأثرية والإرث الفلسطيني جعلتني أُطوِّع كل ما أملك لِأُكَوِّنَ هذا الصرح الذي يرفع رؤوسنا أمام العالم كله". 

تتنوع الحقب التاريخية التي تنتمي إليها الآثار في متحف "أحمد"، فمنها ما تعود إلى حقبة ما قبل الميلاد، ويناهز عمر بعضها أكثر من 5000 عام، وعند تجولك داخل هذا المتحف تجد قطعاً كنعانية الهوى، وثانية فينيقية النشأة، وثالثة فرعونية المَولد، ورابعة بابلية الانتماء، وخامسة بيزنطية الصنع، وأخرى إسلامية الهوية، وغيرها من القطع الشاهدة على التاريخ الفلسطيني العريق والأعراق المختلفة التي سكنت أرضها أو وطأت ثراها، إما للتبادل الثقافي أو التجاري وإما غزواً.

وإضافةً إلى جمع الآثار، عمل "رمضان أحمد" على نحت المعالم الكبيرة والأثرية على الصخور، كالمساجد والقلاع والكنائس والقصور والمباني الكنعانية والأماكن الأثرية في ربوع فلسطين كافة، من خلال جهاز مخصص للنحت حصل عليه بشق الأنفس؛ لتكون -كما يوضح- "دليلاً على وجود حضارة وثقافة وتاريخ طويل لفلسطين"، ومن أبرز تلك المنحوتات: مسجد قبة الصخرة وكنسية القيامة بالقدس المحتلة، والمسجد العمري الكبير بمدينة غزة، وقلعة برقوق بمدينة خانيونس، والعديد من الأماكن الأثرية سواء التي تدمرت على مر العصور أو التي لا تزال موجودة وصامدة وشاهدة على عراقة التاريخ، بهدف "إثبات هذه الهوية والإرث، والتأكيد على أن تراثنا وحضارتنا باقيان وما أوذي ودمر منهما تم توثيقه، وما بقي سيُوَقِّع على نصرٍ يكون نبراساً للأجيال القادمة".
 
خلال الحرب العدوانية المستمرة على غزة، لم يسلم متحف "أحمد" من بطش قوات الاحتلال وقذائف مدفعيته وقنابله الناسفة الحاقدة، وأحالته من مكانٍ بهيٍّ يحفظ التراث إلى "كهفٍ" محروقٍ وركام متبعثرة، يُعبِّر جامع الآثار "رمضان" عن شعوره حينما شاهد متحفه "شقى عمره" على هذه الحالة لأول مرة بعد انسحاب الاحتلال من خانيونس: "كانت دموع عيني تنهمر كالمطر الغزير، وقلبي مفطورٌ على 20 عاماً من تعب وجهد تحولَّ إلى رماد.. كان المكان بوضع يُرثى له، ومعظم الآثار متفحمة بحقدٍ جليٍّ من عدو لا يعرف للتاريخ قيمة ولا يرقب في الإنسانية إلَّاً ولا ذِمَّة". 

ولكن في فترة النزوح الجبري، لم يَغِبْ عن بالِه، أن يأخذ بعضاً من الكنوز القيمة في متحفه؛ لحفظها من بطش الاحتلال وحقده، وإخفائها في مكان آخر، أما القطع التي تمكن من إخراجها من تحت الركام فحفظها في مخزنٍ صغيرٍ داخل متحفه المحروق، وما أثقل عليه هو قيام اللصوص بسرقة عدة منحوتات وقطع أثرية أخرى، وزاد "الطين بلة" عدم معرفتهم بقدرها وقيمتها الأثرية.  

أثناء تجوالنا معه على أطلال ما تبقى من آثار في متحفه، يُمسك "أحمد" حجراً كريماً سكرياً منحوتاً على شكل رأس سلحفاة بوزن 25 كيلوغرام، و"هو في متانته وصلابته وخصائصه يستطيع مقاومة النيران لدرجات عالية"، -كما يُبيِّن-، "ولكن مَا وُضِع من قنابل ناسفة وقذائف لحرق المتحف أكثر بكثير من أن نتخيله، كماً ونوعاً، لدرجة أنه صهر الأحجار، والنحاس، والألمونيوم، والحديد، حتى الباطون". 

كذلك عرضَ علينا إبريقاً نحاسياً مزخرف بالأحرف العربية يعود لحقبة ما قبل الإسلام، وعمره حوالي 2000 عام، وبعد فحصه في مختبرات الآثار بالجامعة الإسلامية في غزة أكَّد خبراء الآثار أن الإبريق يعود لزمن سيدنا يوسف -عليه السلام-، ويحمل "رمضان أحمد" إفادةً بذلك موثقة ومختومة من الجامعة.
ودمر الاحتلال أكثر من 17 متحفاً في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، "وهذا إجرام متعمد لطمس القيمة الأثرية والتراثية ومحو التاريخ وتزييفه، وتدمير الحضارة الفلسطينية العريقة التي تشهد عليها هذه الآثار منذ آلاف السنين"، يؤكد "أحمد".

ومن ضمن ما نجا من تحت ركام المتحف، عملاتٌ معدنية قديمة يزيد عددها عن 1000 قطعة ذهبية ونحاسية وفضية، قام بغسلها وإماطة (إزالة) آثار البارود عنها قدر الإمكان، فكل قطعة منها تنتمي إلى عصرٍ معيِّن، فهذه ترجع للعصر الإسلامي، وهذه للبيزنطي، وتلك للفينيقي، وتلك للفرعي، وأخرى للسومري، وتُقدَّر أعمار بعضها بعشرات وبعضها الآخر بمئات أو آلاف السنين. 

وكما طائر العنقاء الذي ينهض من وسط الركام، ويُحلِّق عالياً في سماء الحرية والنصر، يُصر "رمضان أحمد" الذي فقد منزله وممتلكاته كافة، على مواصلة عمله "الوطني والأخلاقي" في جمع ما تبقى من التراث والآثار ونَحْتِ المعالم والتراث الذي دمره الاحتلال؛ حفاظاً عليه من الاندثار والضياع.  

ويأمل من المنظمات والمؤسسات المعنية بحفظ التاريخ والتراث، أن تدعمه في "إنشاء صرح يحفظ آثار فلسطين وتراثها"، في ظل إبادة جماعية للإنسان والحجر والشجر والتراث والآثار تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة بلا هوادة؛ لمحو الإنسان الفلسطيني، ومعتقداته، وهويته، وتاريخه.