يُطيل الحاج "أبو أنور" النظر صوب أشجار النخيل المزروعة في أرضه بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، ويتأمل علوّها الشاهق وهي شامخة وصامدة رغم ما يحيط بها من دمار، مُراقباً حركة أحد العمال لديه، وهو يتسلق تلك الأشجار؛ ليفحص جودة ثمار البلح المتشبثة بعناقيدها، في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي دخلت عامها الأول توالياً، ولا زالت مستمرة.
المزارع "أبو أنور أبو جميزة"، مزارعٌ من دير البلح، ورث زراعة النخيل وتجارة البلح من أجداده، منذ أكثر من 20 عاماً، يُعايش هذا العام أسوأ مواسم لجني البلح، بسبب استمرار العدوان الإسرائيلي، والذي أثر بشكل مدمر على الإنتاج الزراعي بأكمله في القطاع.
وتشتهر مدينة في دير البلح في زراعة النخيل منذ مئات السنين، وتُعتبر ثمار البلح مصدر رزق لعائلات كثيرة، إذ يعمل المزارع على تشغيل العديد من الأيدي العاملة في الزراعة والجني، لتوفير هذا المنتج (البلح) للسوق الغزي، وتصديره إلى الضفة الغربية وبعض الدول العربية كالأردن.
صنف البلح "الحياني" يُعدُّ الصنف الأكثر نجاحاً في زراعته، وفق ما يوضحه "أبو جميزة"، رغم وجود بعض المحاولات لزراعة أنواع أخرى، مثل "البرحي" و"بنت عيشة"، إلا أن نجاحها كان محدوداً ولم يتجاوز نسبة 5%، إذ يُعتبر مناخ مدينة دير البلح مناسباً وملائماً لزراعة (الحياني) الذي يتميز بقدرته على يتحمل ملوحة المياه، ويُعمِّر لمئات السنين.
لكنَّ أشجار النخيل في قطاع غزة، أضحت هذا العام، عاجزة عن الإنتاج بشكل غير مسبوق، إذ إنها لم تحصل على كمية كافية من المياه وَضَرَبَهَا الجفاف بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وعدم توفر الوقود للمولدات، بفعل توقف المزارعين عن رعاية مزروعاتهم منذ السابع من أكتوبر 2023م، والظروف الكارثية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي في حربه العدوانية، والتي ألقى خلالها أطناناً من الصواريخ والبارود والمواد الكيماوية السامة، واستهداف الأراضي بشكل مباشر.
هذه الظروف أدت إلى تعكر الظروف المناخية وتلوث المياه والتربة، وانعدام وسائل الري، وهو ما ساهم في انتشار سوسة النخيل، وبالتالي التأثير بشكل مدمر على الأشجار، بعد أن كانت تُعطي ثماراً طيبة ومحصولاً وفيراً، يدُرُّ دخلاً يكفي السوق الغزي.
يُضاف إلى ذلك، النزوح الكبير للناس نحو الأراضي الزراعية واتخاذها مأوى لهم، مما جعل تلك الأراضي تحت تهديد مباشر من مياه الصرف الصحي والتلوث البيئي، وقد أدى ذلك إلى فساد موسم النخيل، وتأثُّر التربة والمزروعات، وأصبحت الأشجار عرضة للأمراض والآفات؛ وهو الأمر الذي أضعف جودة الثمار، وجعلها غير صالحة للاستهلاك أو الإنتاج.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
أمام تلك الحالة، لم يعد بإمكان المزارع استخدام البلح لصناعة العجوة أو حتى بيعه للاستهلاك البشري. ومع هذا الوضع، اضطر "أبو أنور" إلى إيقاف مصنع العجوة الخاص به تماماً، حيث لا توجد إمكانية لضمان الجودة الصحية للإنتاج.
ويُقدِّر المزارع "أبو جميزة" خسارته هذا العام، بحوالي "200 ألف دولار بسبب عدم قدرتنا على قطف الثمار"، ناهيك عن "تعفن" البلح وتلف الثمار المخزنة في الثلاجات بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وهو ما اضطره لبيعه علفاً للمواشي. يقول: "انظر إلى البلح، كيف أصبح أسود اللون وغير صالح للاستهلاك"،
ووفق إحصائيات غير رسمية، فإن ما يقارب 20% من أشجار النخيل تلفت بشكل كامل، وقد بلغ الضرر ذروته مع انتهاء موسم البلح، حيث يمكن القول إن 99% من المحصول قد فسد، وبالتالي يُعتبر هذا الموسم هو أسوأ سنة على الإطلاق في تاريخ زراعة النخيل في غزة".
وتبلغ عدد أشجار البلح المزروع في قطاع غزة حوالي 200 ألف نخلة، وفق إحصائية نشرتها وزارة الزراعة بغزة، في العام الماضي.
وكان المتحدث باسم وزارة الزراعة بغزة، محمد أبو عودة، أفاد في مقابلة صحفية مع "شمس نيوز" بتاريخ 2 أكتوبر 2023م، أن إنتاج البلح في قطاع غزة شهد وفرةً كبيرة، إذ بلغت كمية الإنتاج حوالي 15 ألف طن، وهي كمية تغطي احتياجات قطاع غزة.
وبيَّن أبو عودة، أن إنتاج البلح يُسوق في السوق المحلي الغزي، على هيئتها الصلبة أو رطباً، فيما يتم تخزين الفائض في الثلاجات وتسويقه للضفة الغربية خلال شهري فبراير ومارس، إذ يشح البلح وقتها في الأسواق، لافتاً إلى أن الكميات التي تصدر للضفة الغربية هي كميات قليلة ومحدودة.
وعُرفت زراعة النخيل في فلسطين منذ آلاف السنين، وحظيت باهتمام المزارع الفلسطيني؛ كونها شجرة ذات قيمة اقتصادية كبيرة، ومنزلة دينية عظيمة، تعيش مئات السنين، ولقدرتها على تحمل العديد من الظروف المناخية، بالإضافة لقدرتها على النمو في التربة المالحة.
وتنتشر زراعة النخيل في فلسطين في منطقة أريحا والأغوار وقطاع غزة، لا سيما في مدينتي: دير البلح، وخان يونس. ومن المعروف أن مدينة أريحا تاريخياً أطلق عليها اسم "مدينة النخيل"؛ لكثرة مزارع النخيل فيها. وتحتاج الشجرة حتى تثمر ثلاث سنوات، وتصل بعد ست سنوات إلى الذروة.