تعتمد الاستراتيجية الإسرائيلية، بالتعامل مع محور المقاومة، وخصوصاً في الجبهة الشمالية مع حزب الله، على وضع أهداف مرحلية ذات سقوف سياسية محدودة، مرتبطة بقدرتها على تنفيذها، من خلال تقييم دائم للبيئة المحيطة بـ"إسرائيل"، داخلياً وخارجياً، من جهة، وبطبيعة رد محور المقاومة على السلوك الإسرائيلي، من جهة أخرى. فعندما قرر "الجيش" الإسرائيلي نقل ثقله القتالي إلى لبنان، تحت هدف إعادة مستوطني الشمال بأمان إلى مستوطناتهم، أطلق عملية "سهام الشمال"، والمعتمدة على ضربات عسكرية وأمنية متتالية ضد منظومة القيادة والسيطرة في حزب الله، وصلت إلى ذروتها عبر اغتيال السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، الأمر الذي أحدث نشوة من غرور القوة لدى القيادة الإسرائيلية والمجتمع الاسرائيلي على نحو لا يقل عن غرور ما بعد حرب 1967م، إلى درجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سارع وأعلن أنه يسعى لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بكامله، بحسب الرغبة الإسرائيلية.
وبدأ الحديث الإسرائيلي عن اجتياح لبنان وتدمير قوة حزب الله بالكامل، وتحويله إلى حزب هامشي منبوذ في خريطة التوازنات اللبنانية بعد إعادة رسمها إسرائيلياً، بحسب مصلحتها، بل تخطت الأهداف الإسرائيلية لبنان تجاه سوريا والعراق، حتى إنها وصلت إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، لتحسم "إسرائيل" نهائياً صراعها مع محور المقاومة، وتزيل بالمطلق تهديداته من الوجود الإسرائيلي.
مما سبق، يمكن قراءة أهمية الضربة الإيرانية، عبر أكثر من 180 صاروخاً بالستياً على كامل الجغرافيا الإسرائيلية المغتصب لفلسطين المحتلة، فهذا الهجوم الصاروخي الإيراني بهذا الحجم وهذه الدقة، والأهم في هذا التوقيت، ساهم في :
أولاً، لجم التغول الإسرائيلي وإيقاف قطار الغرور وعنجهية القوة الإسرائيلية، وباتت تطرح الأسئلة الموضوعية داخل المجتمع الاسرائيلي والقيادة الاسرائيلية بشأن حقيقة قدرة "إسرائيل" على تنفيذ تلك الأهداف، بعيداً عن ديماغوجيا الشعارات الصهيونية الجوفاء. وهذا يفسّر تصريح رئيس بلدية "تل أبيب"، بعد أقل من ساعتين من الهجوم الإيراني، وقوله إن نتنياهو يأخذهم إلى الجحيم.
ثانياً، أعادت الضربة الإيرانية التوازن، نفسياً ومعنوياً، والثقة بقوة محور المقاومة وقدرته على امتصاص الهجمة الإسرائيلية الغاشمة، وخصوصاً أن القصف الإيراني واكب عملية يافا الفدائية من جبهة الضفة الغربية، وتلاها كمين العديسة في جنوبي لبنان، الأمر الذي أكد متانة محور المقاومة، وخصوصاً حزب الله.
ثالثاً، فرضت إيران نفسها، ومعها كل محور المقاومة، لاعباً رئيساً في المنطقة لا يمكن تجاوزها وتجاوز محورها، وأن أي جهة لا يمكن لها إطلاق يدها عبر العبث في المنطقة وتوازناتها.
رابعاً، إفشال مخطط نتنياهو، الهادف إلى توريط الأميركيين في حرب مفتوحة مباشرة مع إيران، فالضربة الإيرانية أثبتت للجميع أن الصبر الاستراتيجي الإيراني تحول إلى غضب استراتيجي لكل جبهات محور المقاومة، وخصوصاً إيران نفسها، الأمر الذي التقطته الإدارة الأميركية، التي سارعت إلى التأكيد أنها لا تسعى لحرب إقليمية في المنطقة، وبدأت تضغط على "إسرائيل" بذلك.
خامساً، أثبتت الضربة الإيرانية، وما واكبها من عمليات من سائر جبهات محور المقاومة، أن "إسرائيل" ليست مكاناً آمنا لليهود في العالم، وأن وعود الوهم الصهيونية بأن اليهودي سيعيش في أرض العسل واللبن باتت خدعة واضحة تكذّبها الوقائع. فاليهودي، الذي يريد أن يستوطن في فلسطين المحتلة، عليه أن يعيش في خطر وتهديد دائمين على مدار الوقت، وأن أقصى ما يمكن للجيش الإسرائيلي فعله شراء بعض الوقت من الهدوء خلال الصراع الممتد عبر الوقت.
لذلك، كانت الضربة الإيرانية تحولاً استراتيجياً جديداً لمصلحة محور المقاومة برمته، وتثبيت أركانه في المنطقة وفي داخل قلوب جماهيرها، كما أوضحت الفرحة والزغاريد والأهازيج التي امتلأت بها خيام النازحين في غزة ولبنان.