تشتعل ألسنة النيران الملتهبة في كل زاوية من البيت المستهدف، كانت إحدى الفتيات تحت الركام تصرخ والألم يقتلها: "أنا هنا أنقذوني؟"، حاول صلاح عبد الهادي وهو أحد أبطال الدفاع المدني إخماد النيران التي تحاصر الفتاة من كل جانب، الوقت كان يدركه والنيران كادت تحرقه؛ لكن صوت الفتاة بدأ يتلاشى تدريجيًا، دقيقة فقط فقدت خلالها الفتاة أنفاسها الأخيرة.
مشاهد مروعة ومفزعة عالقة في ذاكرة رجل الدفاع المدني صلاح عبد الهادي مع مرور عام كامل من حرب الإبادة الجماعية التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
ويُعد جهاز الدفاع المدني أحد الأجهزة المهمة التي تتقدم الصفوف رغم المخاطر التي تحيط بأبطالها خلال عمليات إنقاذ المصابين والجرحى واخماد الحرائق التي تشتعل في منازل المواطنين خلال حرب الإبادة إذ استشهد نحو 85 رجلًا من جهاز الدفاع المدني خلال عمليات الإنقاذ.
من بين شهداء رجال الدفاع المدني الشاب "محمد" نجل صلاح عبد الهادي، فقد ترك محمد حياته الجميلة وزوجته وأطفاله وأصَّر على مشاركة والده في خدمة أبناء شعبنا وإنقاذ أرواحهم مهما كلفه من ثمن.
في أحد الأيام الدامية غادر محمد المنزل بعدما استلم مكان والده متجهًا للعمل، ساعات قليلة أمضاها محمد برفقة زملائه ضاحكًا ومازحًا، وفجأة استهدفت قوات الاحتلال منزلًا سكنيًا في منطقة المغازي وسط القطاع.
استنفرت طواقم الدفاع المدني بكل طواقمها؛ فغادر محمد على رأس فريق من زملائه لإنقاذ الجرحى والمصابين، مرت ساعة وساعتين دون أي خبر عن الفريق، وفجأة وصل الخبر "محمد أصيب خلال القصف"، لم يكن والده يعلم بذلك ببساطة لأنه أنهى شفته الأول في الدوام وسلمه لنجله.
وعندما كان صلاح في المنزل يداعب أطفاله وأطفال نجله محمد دق جرس الهاتف النقال، كان الاتصال من العمل، تفاجأ صلاح وبدأ الخوف يتسلل لقلبه يقول: "يا رب سترك"، رد صلاح مباشرة وكان المتصل سريعًا في إيصال المعلومة: "محمد أصيب أثناء انقاذ الجرحى في استهداف المغازي وهو في المستشفى".
توجه صلاح مباشرة للمستشفى ليرى نجله مسجى بدمائه الطاهرة على سرير العناية المركزة، قاوم محمد الموت لمدة 3 أيام متواصلة حتى استسلم لأمر الله وفارقت روحه الأرض تاركًا خلفه أسرة مكونة من زوجة وأطفال صغار ووالدين مكلومين.
استقبل والده صلاح خبر الاستشهاد بالصبر والدعاة له بالرحمة والمغفرة والعيش في الجنة، إذ يقول لمراسلنا: "لقد زفه زملائه رجال الدفاع المدني إلى مثواه الأخير كزفة العريس إلى حور العين".
يتوقف صلاح عبد الهادي للحديث عن الواقع ليستعيد شريط ذكرياته قائلًا: "كان محمد يحب عمل رجال الدفاع المدني كثيرًا وقاتل من أجل تحقيق حلمه منذ أن أصبح عمره 10 أعوام، فقد كان يتردد إلى موقع عملي".
ومع عشقه وحبه لعمل الدفاع المدني إلا أن محمد درس الهندسة المعمارية؛ لكنه لم يترك حلمه أبدًا، إذ تمكن عام 2022 من تخطي دورات تدريبية للدفاع المدني محققًا نجاحًا باهرًا ليصبح أحد أبطال جهاز الدفاع المدني منذ تلك اللحظة.
وعندما بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة الجماعية ضد المدنيين في قطاع غزة، عملت ومحمد في جهاز الدفاع المدني على مدار الساعة دون توقف فقد كان عملنا (24 ساعة عمل مقابل 12 ساعة راحة) يقول صلاح: "عندما ينتهي دوامي وأعود إلى البيت يأتي محمد ليستلم مكاني في قيادة السيارة والفريق المناوب".
فجأة ودون سابق إنذار قاطع حديث صلاح مع مراسل "شمس نيوز" صوت انفجار ضخم في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وفورًا هب صلاح وتركنا لإنقاذ الجرحى والمرضى وتقديم الواجب لأبناء شعبه.
وخلال الحرب تعرض جهاز الدفاع المدني لخروج ما يزيد عن 4 مراكز و29 آلية عن الخدمة خلال عام كامل من الحرب الإسرائيلية على القطاع، حيث أكد المقدم سامح جمعة خليفة مدير مركز الدفاع المدني في منطقة الزهراء وسط القطاع بأن الاحتلال استهدف المقر الرئيسي في مدينة الزهراء وتم الانتقال إلى أماكن عدة لحماية أبطال الدفاع المدني والطواقم والمعدات من الاستهداف الإسرائيلي الذي لاحق جهاز الدفاع المدني في كل مكان.
وفيما يتعلق بمعدات الدفاع المدني قال خليفة: "نعاني قبل الحرب من أزمة نقص معدات الدفاع المدني في كل محافظات قطاع غزة وتفاقمت الأزمة مع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد كل شيء يتحرك في قطاع غزة من ضمنها أجهزة الدفاع المدني".
ويعاني جهاز الدفاع المدني من نقص (الجرافات والبواقر والرافعات والأدوات اليدوية التي تعمل على الكهرباء والمحروقات وأجهزة التنفس وأجهزة تعبئتها) إذ يؤكد خليفة بأن كل تلك الأجهزة التي كانت متوفرة تعاني من الاهتراء والأقدمية ومع الحرب فقدنا الكثير منها.
وأجهزة الدفاع المدني هي أجهزة مدنية تتمتع بالحماية التي توفرها قواعد القانون الدولي الإنساني المطبقة على جميع الأشخاص المدنيين والأعيان المدنية بشكل عام، وتحظر معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949 الاعتداء على أفراد الدفاع المدني اثناء القيام بواجباتهم اثناء النزاعات المسلحة، ويحدد البرتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف الذي اعتمد في العام 1977 هذه الحماية بشكل واضح.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
بيان جهاز الدفاع المدني
ونشر جهاز الدفاع المدني بالأرقام احصائيات الأضرار التي أصابت الجهاز خلال عام من حرب الإبادة الجماعية إذ يعمل الجهاز بأقصى طاقته، التي لا تتجاوز 20% من القدرة الأساسية؛ وذلك بسبب تعمد الاحتلال استهداف مقار ومركبات الدفاع المدني واستهداف الكوادر أثناء القيام بواجبهم، حيث أدى ذلك لتدمير 52 من المركبات بأنواعها تدميرا كليا وجزئيا، واستشهاد 85 من العناصر والكوادر وإصابة 292 آخرين.
وأوضح الدفاع المدني أن الاحتلال الإسرائيلي دمر تدميرا كليا (11) مركبة إطفاء وإنقاذ، و(مركبتين) انقاذ للتدخل السريع و(4) مركبات صهريج للتزود بالمياه، كما دمر (8) مركبات اسعاف ومركبة سلم هيدروليكي و(12) مركبة إدارية، وهذا ما يؤكد أن قوات الاحتلال تقصد وقف العمل الانساني وتدخلاتنا التي تساهم في إنقاذ الأرواح وحماية الممتلكات.
وأشار إلى أن (7) مركبات اطفاء تعرضت لأضرار يمكن إصلاحها في حال توفر الدعم وقطع الغيار اللازمة، أيضا تضررت (3) مركبات إنقاذ و(3) مركبات اسعاف ومركبة صهريج للتزود بالمياه، وهي مركبات يمكن ان تعاد للخدمة في حال سمح الاحتلال بإدخال قطع الغيار المناسبة لإصلاحها.
ولفت إلى أن استمرار تجاهل تدخل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية الإنسانية، جعل الاحتلال الإسرائيلي يمعن في استهداف مقدراتنا وكوادرنا، فقد استهدف مقارنا وطواقمنا بشكل مباشر "6 مرات" واستهدف طواقمنا أثناء القيام بمهامها في مسرح الأحداث 14 مرة، مبينًا أن أكثر من 47% من طواقمنا تعرضوا للخطر الجسدي، عوضا عن أن جميعهم تعرضوا للضرر النفسي بفقدان أحد من أقاربهم أو بيوتهم.
ونفذت طواقم الدفاع المدني وفقًا للبيان، مهمات خلال الحرب توازي عملها بما يعادل 40 عام/عمل حسب زمن الاستجابة والسيطرة، مقارنة بعملها الطبيعي قبل الحرب، إذ استقبل الدفاع المدني خلال حرب الإبادة الجماعية 90,000 اتصال نداء استغاثة، وقد تمكن من الاستجابة لأكثر من 75,000 نداء نتج عنها ما يزيد عن 260,000 مهمة، تنوعت بين إنقاذ وإخلاء وإسعاف مصابين وإخماد حرائق وانتشال شهداء.
وتمكنت طواقم الدفاع المدني من الاستجابة لأكثر من 15,600 نداء استغاثة، وذلك بسبب وجود معيقات وصعوبات كثيرة يضعها الاحتلال الإسرائيلي، وتمكنت طواقم الدفاع المدني وما يرافقها من الطواقم الطبية انتشال 37,210 شهيدا من المنازل والشوارع والأماكن المستهدفة، وأعاق الاحتلال انتشال آلاف جثامين الشهداء التي لا زالت تحت الأنقاض المدمرة.