على أنقاضِ الوجع، وقفَ مدير مكتب الجزيرة بغزة، الأستاذ وائل الدحدوح، بصبرٍ أسطوريٍّ يفوق حدود إدراك العقل البشري، وكأنه جبلٌ راسخٌ لا يتزحزح رغم الآلام، مُكملاً رسالته الإعلامية بأمانة عزَّ نظيرها، يحمل جراحه في قلبه كما يحمل الميكروفون بيديه، لينقل للعالم جرائم الإبادة الجماعية التي تُمارسها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني في غزة، في أبشع حرب في التاريخ الإنساني الحديث.
أثناء وجوده في رسالة صحفية عبر الهواء مباشرة، تلقى الدحدوح خبر استهداف طائرات الاحتلال للمنزل الذي نزحت إليه عائلته قسراً في مدينة النصيرات جنوبي وادي غزة، ما أدى إلى استشهاد زوجته "أم حمزة" وابنه "محمود" وابنته، وحفيده "آدم"، وعدد آخر من أفراد عائلته؛ بهدف إسكات صوته الذي أزعج المحتل، وتغييب صورة الحقيقة التي أرقت مضاجعه، ليخرج بعد ساعات معدودة على شاشة الجزيرة مُكملاً الرسالة الإعلامية بعزيمة كبرى لا مثيل لها.
صوت "الدحدوح" الذي لم يخبُ شكَّل رعباً وخطراً حقيقياً على "إسرائيل"، فاستهدفت نجله البكر "حمزة" بصاروخ مباشر أثناء مهمة صحفية في مدينة رفح جنوبي القطاع؛ ليرتقي شهيداً رفقة زميله "مصطفى ثريا"، وينضم إلى قائمة الشرف الإعلامية.. وعلى الرغم من ذلك أطلَّ مدير مكتب الجزيرة بغزة بعد سويعات عبر الشاشة ويستمر في تغطيته الإعلامية، رابطاً على جراحه؛ ليكون بذلك أيقونةً لكل الصحفيين في غزة والعالم، وجبلاً شامخاً يُثبت أن الإرادة الصحفية لا تُكسَر، وأن الحقيقة لا تُغتال، حتى وإن حاول الاحتلال طمسها.
مسيرة الاستهداف لم تتوقف عند هذا الحد، فقد أصيب "الدحدوح" إصابات خطرة بفعل استهداف مباشر له من طائرات الاحتلال، أثناء مرافقتهما سيارة إسعاف حيث كان لديها تنسيق لإجلاء عائلة محاصرة في مدرسة "فرحانة" بمدينة خانيونس؛ ليرتقي مصور الجزيرة الزميل "سامر أبو دقة" بعد أن استهدفه الاحتلال بصاروخين بشكل مباشر وتركه ينزف لساعات حتى الموت؛ وهي جريمة بشعة تُنافي الأخلاق وتنتهك الأعراف الدولية ومواثيق حقوق الإنسان وحماية الصحفيين.
في زاوية أخرى من مدينة خانيونس.. مُستنداً إلى عكازٍ بعد أن فقد إحدى قدميه في غارة "إسرائيلية" استهدفته بشكلٍ مباشرٍ، يقف الزميل المصور الصحفي سامي شحادة خلف كاميراته، شامخاً، يَضبِطُ إعداداتها ويُجَهِّز كادره؛ قبل خروج زميله المراسل في رسالةٍ صحفيةٍ مباشرةٍ، يَنقل فيها معاناة النازحين ويُوثِّق الجرائم والمجازر البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أهالي قطاع غزة، في حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من عام كامل.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
تعرَّض الزميل شحادة، وهو مصور شبكة TRT التركية، لاستهداف مباشر من طيران الاحتلال "الإسرائيلي" أثناء مهمة صحفية خلال الحرب، فقد على إثرها قدمه، لكنه على الرغم من ذلك اختار الاستمرار في مهنة المتاعب محمولاً بروح لا تعرف اليأس أو الاستسلام، وعاد إلى الميدان مرة أخرى بشموخٍ، مستكملاً عمله الإعلامي؛ لتكون بداية جديدة، على جبهة الصورة، لمعركة صَيَّر فيها عدسته؛ لتكون نافذة على مآسي أهالي القطاع وظروفهم الكارثية زمن الإبادة.
استهداف الصحفيين في غزة كان جزءاً من سياسة ممنهجة تتبعها "إسرائيل" بهدف إسكات صوت الحقيقة، فقد كان العام الماضي هو الأكثر دموية على الأسرة الصحفية، وفق المكتب الإعلامي الحكومي، إذ ارتقى 175 شهيداً من الصحفيين بنيران وصواريخ قوات الاحتلال، وأُصيب العشرات منهم بجروح بليغة منهم من بُترت أطرافهم، واعتُقِل عدد آخرون، أثناء قيامهم بمهام صحفية، رغم ارتدائهم لشارات الصحافة الدولية.
اخترنا لكم: عام على حرب الإبادة.. حكايات مفقودي الحرب معاناة بلا نهاية "لا هم شهداء ولا هم أسرى"!
وإذا كانت صاحبة الجلالة، الصحافة، تسمى بـ"السلطة الرابعة"، فإن صحفيي غزة هم ضلع أساسي من أضلاع الصمود، فمنذ اللحظة الأولى لبدء الحرب الإسرائيلية على القطاع، حَمَل الصحفيون أمانة نقل رسالة الحقيقة وتوثيق جرائم الاحتلال، ووقفوا أبطالاً يناضلون بالميكروفون، والكاميرا، والقلم؛ لإيصال صورة وصوت شعب لا يُرى ولا يُسمع إلا بصدى الدمار، فكانوا عيون الأطفال التي فُقِأت، وأصوات الثكالى والأرامل اللواتي فَقَدْنَ أُسَرَهُنَّ، وكانوا صوت من لا صوت له، وصورة من لا مرآة له.
أبرز التحديات التي واجهها صحفيو غزة، إضافةً إلى الاستهداف المباشرة، تمثلت في تدمير المقار والمكاتب الصحفية، ونقص الإمكانات والمعدات الصحفية وغياب الدعم اللوجستي، وانعدام البيئة الآمنة للعمل الصحفي.
لكنَّ سمو القضية والإرادة الجبارة، كانت أكبر من هذه التحديات، فقدَّم صحفيو غزة تغطيةً استثنائيةً متميزة على مدار عام كامل، ولم ينحصر دورهم في توثيق مشاهد القتل والدمار فحسب، بل نقلوا أيضاً الصورة الحية للمعاناة اليومية للنازحين، من شح المياه، وعدم وجود مأوى، ونقص المواد الغذائية، واستخدام الاحتلال التجويع كسلاح، وإغلاق المعابر، ومنع إدخال الدواء، والمقابر الجماعية، وانهيار الخدمات الصحية، وانعدام الكهرباء والاتصالات، كما نقلوا بسالة رجال المقاومة في صد العدوان، وكانوا على الدوام فدائيين في حضرة صاحبة الجلالة.
علاء سلامة: هذه الحرب هي الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين
واعتبر الزميل علاء سلامة، مراسل قناة الجزيرة مباشر، أن هذه الحرب هي أكثر الحروب إبادة الصحفيين الفلسطينيين واستهدافاً لهم، في العصر الحديث، مشيراً إلى ارتكاب الاحتلال مذابح بحق الصحافة والعاملين في مسرح الإعلام.
وقال سلامة، في حديثه لـ"شمس نيوز"، إنَّ "الاحتلال كثَّف من وتيرة استهدافه للصحفيين وعائلاتهم بوتير غير مسبوقة خلال هذه الحرب، وعدد الشهداء من الصحفيين هو الأكبر على الإطلاق عن سبق إصرار وترصد، وهو عددٌ مرشح للزيادة إذا استمر العدوان".
ولا ينبغي أن يخضع العمل الصحفي في قطاع غزة للتقييم في الفترة الحالية، وفق ما يراه الإعلامي سلامة، فهناك حالة من التقويم المستمرة لعمل الزملاء الصحفيين، وكل زميل صحفي يعمل ويتنقل في الميدان، ترفع له القبعة، سيما في ظل ضعف الإمكانات، واهتراء الكثير من المعدات الصحفية، والأضرار البالغة التي لحقت بقطاع الصحافة عموماً، والصحفيين بشكل شخصي.
لكنَّ الزخم الإعلامي للحرب على غزة والتي كانت تلقى اهتماماً وانتباهاً انشغالاً كبيراً لدى وسائل الإعلام العربية والأجنبية من جهة، والمتابع العربي والمسلم، وحتى الغربي من جهة أخرى، تراجع إلى حد كبيرٍ، كما نبَّه الزميل سلامة، مع إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي حربه على لبنان، وعدوانه على الضفة الغربية، ما أدى إلى اختلاط الساحات وتداخل الأخبار مع زيادة كميتها.
ولهذه الأسباب، يعزو الإعلامي سلامة، سَبَب تراجع المتابعة للشأن الفلسطيني وتطورات الحرب في القنوات الإخبارية والوسائل الإعلامية، إذ لم يعد خبر قطاع غزة هو الأول على الشاشات رغم استمرار المجازر وبوتيرة أعلى من السابق.
كما أن "اعتياد المشهد"، وتكرار المجازر والمذابح، مع استمرار أشهر الحرب على قطاع غزة، أدى إلى صرف الانتباه الدقيق والمباشر عن أخبار غزة والحرب، وفق الزميل علاء سلامة.
وأضحى صحفيو غزة، بثباتهم وإصرارهم، رمزاً للنضال الإعلامي، كما أوضح مراسل الجزيرة مباشر، فهم يواصلون رسالتهم متحدّين الاستهداف والتحديات اليومية، ليثبتوا أن الصحافة في غزة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة الحق في زمن الباطل والاحتلال.
محمد جربوع: عزيمة الصحفيين لم تفتر بعد عام من الحرب
بدوره، يرى الزميل محمد جربوع، رئيس تحرير "وكالة سبق 24"والمحاضر في قسم الإعلام والاتصال الجماهيري بجامعة الأزهر، أن الإعلام لعب دوراً هاماً وكان له الدور الأبرز في التغطية وفضح مجازر الاحتلال على مدار هذا العام.
ويؤكد جربوع، في حديثه لـ"شمس نيوز"، أن صحفيي غزة نجحوا باقتدار في نقل معاناة النازحين والتجارب الإنسانية المريرة، التي ينبغي أن تُصدَّر للعالم العربي والغربي.
لكنه يتفق مع ما يراه الإعلامي سلامة، فيقول: "رغم معرفتنا المسبقة بأن هذه الرسائل والصور لن تؤثر بالعالم ولن تغير شيئاً أو تحرك فيهم، إلا أنَّ الأمانة المهنية تحتم نقل هذه الرسالة ومواصلة الطريق نحو إيصالها والاستمرار بنفس العطاء والزخم (..)".
أما عن استهداف الاحتلال للصحفيين، فيشدد المحاضر في قسم الإعلام على أن "الاستهدافات الممنهجة جعلت حالة العمل الصحفي ترتقي إلى الحب والاخلاص لهذه المهنة، وبالتالي كان أي استهداف لأي زميل يُشعرنا بوجوب مواصلة الرسالة الإعلامية، وإبراز الرواية الفلسطينية ودحض الرواية الإسرائيلية الزائفة".
ومع مرور عام كامل على الإبادة، لم تفتر عزيمة الصحفيين، وفق ما يوضحه رئيس تحرير وكالة سبق 24، ولم تنحنِ أقلامهم، أو تُغيَّب عدساتهم، أو تُكتم أصواتهم، أمام جبروت الطائرات والدبابات، وكان العمل الصحفي في غزة بمثابة رسالة فدائية، وجهاً لوجه مع الموت، لكن بكاميرا وقلم يتحدى الاحتلال.
سامي برهوم: لا زلنا في الميدان والتغطية مستمرة
أما الزميل سامي برهوم، مراسل قناة TRT العربية، فجدد التأكيد على أن الصحفيين لا زالوا في الميدان بعد سنة من هذه الحرب، "ندخل عاماً جديداً والإبادة ما تزال مستمرة، وإن كان حصاد عام من هذه الحرب عشرات الزملاء الصحفيين قتلتهم "إسرائيل" وعشرات آخرون أصيبوا، واعتقل آخرون، واستهداف ممنهج لعائلاتهم ومنازلهم".
ويشير برهوم، في حديثه لـ"شمس نيوز"، إلى أن "الصحفيين أمام مسؤولية مهنية وإنسانية لم تتوقف، وإن كانوا في دائرة الخطر، والملاحقة المستمرة، فمهنة الصحافة في غزة لا تتطلب فقط الجهد والمعرفة، بل الشجاعة الفائقة لمواصلة التغطية رغم الفقد والدمار".
ولن تستطيع "إسرائيل" أن تغتال الحقيقة، حتى وإن غابت الأرواح التي تنقلها، على الرغم من محاولاتها المتعمدة لطمس الحقائق، فالصحفي هو الشاهد والشهيد، -كما قال مراسل قناة TRT العربية-.
على الصعيد الشخصي، تعرض الزميل برهوم، لـ 5 استهدافات إسرائيلية مباشرة، رفقة زملاء آخرين منهم من بُترت قدمه، ومنهم من فقد عينه، لكنه اختار بكل بسالة أن يستمر في التغطية الإخبارية حتى بعد مرور سنة من الإبادة.
وطالب المجتمعَ الدولي والمنظمات الحقوقية والمعنية بالصحفيين بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي وإلزامه بإيقاف هذه الإبادة، وتحييد الصحفيين عن الاستهدافات المتعمدة والمباشرة واليومية.
وبعد مرور عام كامل من حرب الإبادة الجماعية، يعانق الصحفيون الموتَ بأقلامهم وكاميراتهم ليفضحوا جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فلم يكلّوا، ولم يألوا جهداً، فهم رواة القصة التي تكتب بدماء شعب بأكمله في معركة هي في الأصل معركة وعي، معركة الإنسان من أجل أن يكون إنساناً سوياً.