على سريرٍ بسيطٍ مُكونٍ من "فرشة" تستند خشبةً مسطحة ترتكز على حجارة أربعة، أمام خيمته الصغيرة على شاطئ مدينة الزوايدة وسط قطاع غزة، يجلس "فؤاد" متأملاً أمواج البحر المتلاطمة، واضعاً كفيه على وجهه، محاولاً إخفاء مشاعره الفيَّاَضة بأسمى معاني الوجع والعجز.. قسماتُ وجهه الثلاثيني الذي غَزَاهُ التجاعيد مبكراً تحمل ألماً "تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً"، من هول الخطب، وثقل المصاب.. بينما تتسلل الدموع من محجريه خلسةً، لتُبلِّل وجنتيه، يُحدِّق بعينيه المتعبتين في قدميه مُحاولاً استيعاب ما حدث قبل عام واحد حين شنت "إسرائيل" حرب الإبادة الجماعية المتواصلة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، وتسلبه ساقه اليسرى وتعطب اليمنى؛ لتتركه رهين السرير وحبيس الإعاقة والنزوح.
مُطلَقَاً، لم يخطر ببال "فؤاد" الخور (34 عاماً) أن ينتهي به الحال قعيداً على كرسي متحرك، نازحاً عن بيته، بعد أن كان معروفاً بحيويته وعشقه لرياضة الجري على شاطئ البحر في غزة، لكن إصابته غيَّرت حياته بشكل كلي.
الحكاية المؤلمة بدأت في الأيام الأولى للحرب، إذ هرع "فؤاد الخور" (34 عاماً)، لإنقاذ عائلته بعد تعرض منزلهم للقصف من طائرات الاحتلال الحربية، في حي الصبرة بمدينة غزة؛ ليباغته صاروخ آخر ويصيبه بجراح بليغة في قدميه وأنحاء جسده، بفعل الشظايا الملتهبة والحادة للصاروخ المنفجر؛ ليسقط مغشياً عليه.
يستذكر "الخور" تفاصيل تلك اللحظات العصيبة، وكأنها حدثت اليوم أمام ناظريه، فيقول لمراسل "شمس نيوز": " "كًنتً أركض بلا وعي لإنقاذ أهلي بعد قصف بيتنا، وفجأة اهتزَّ المنزل كأنَّ زلزالاً أصابه، واستعرت كومة لهب كبيرة كالبركان، وأصبح كل شيء مظلماً، آخر شيء أتذكره هو أنني كنت أسعف أهلي، ثم انحبس نفسي وفقدتُ الوعي".
تزامن الاستهداف الثاني مع دوي صافرات سيارات الإسعاف التي أعلنت وصولها للمنزل، وهرعت الطواقم الطبية إلى إسعاف "فؤاد" والمصابين والشهداء إلى أقرب مستشفى، ولكنَّ كثافة القصف الإسرائيلي، واستهداف المشافي والبنى التحتية وتدمير الطرق، حالت دون ذلك، ما اضطر مركبة الإسعاف إلى سلوك طريق أطول نحو مستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
فور وصوله "الخور" الفاقد للوعي، نُقِل مباشرة إلى غرفة العناية المركزة، واستطاع الأطباء وقفَ النزيف في قدمه اليسرى ببترها، ثم تُرِك تحت الملاحظة الدقيقة؛ أملاً في نجاته.
اشتد القصف حول المشفى، بفعل التوغل البري للاحتلال الإسرائيلي، وامتلأ المكان بالمصابين، ومن هول المشهد، ظنَّت عائلة "فؤاد" أنه استشهد، وهذا الخبر نزل كالصاعقة على زوجته وابنته الوحيدة اللتان كانتا نزحتا إلى جنوبي وادي غزة، ولبسوا ثوب الحِدَاد يومين كاملين، قبل أن يأتيهما الخبر اليقين بأي "فؤاد" على قيد الحياة، لكنه مبتور القدم!
هُنَا كفكف "الخور" دمعةً سالت على وجنتيه، وصمتَ لهنيهة من الزمن، التقط خلالها أنفاسه المتسارعة، قبل أن يكمل بصوتٍ متحشرج: "كان في أمل، لولا المسافة الطويلة التي قطعها الإسعاف بسبب ضراوة القصف وإغلاق الطرقات، وهو ما أدى إلى تغلغل الأتربة والجراثيم والبارود إلى جراح قدمي، ما أدى إلى تدهور حالتها وبترها في النهاية".
لم يكن ذلك هو الصدمة الوحيدة لـ"فؤاد" وعائلته، فبعد بتر قدمه اليسرى، حاول الأطباء علاج أعصاب قدمه اليمني المتهتكة كونها أصيبت إصابة بالغة هي الأخرى، لكنَّ أيَّاً من محاولاتهم لم تنجح، وفقد القدرة على الحركة بها هي الأخرى.
ومع تصاعد وتيرة الحرب بشكل غير مسبوق، وأمام تدهور حالته، اضطر "الخور" للحاق بزوجته وطفلته والنزوح إلى جنوبي وادي غزة؛ لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة تنقل خلالها من خيمة إلى خيمة، ومن مرارة إلى مرارة، حيث لا مأوى، ولا عمل، ولا مصدر دخل، يمكن أن يسانده بعد أن توقف عن عمله في "بوتيك" (محل) لبيع الملابس بسبب الحرب وإصابته.
في لقائه الأول مع عائلته بعد أن فرَّقتهم الحرب شهوراً، تروي زوجته "نور السعودي" (22 عاماً) تفاصيل مؤلمة، فتقول: "لم تتعرف ابنتي (سلوان) على والدها بسبب بتر قدمه واستخدامه كرسياً متحركاً".
"أنا بابا يا سلوان مش عارفاني؟" بهذا الكلمات لخصت "السعودي"، مشهد لقاء الطفلة (ذات العامين) بوالدها، وهو المشهد الأقسى في هذا اللقاء الأليم، و"بالكاد حاول فؤاد أن يتجاهل هلع ابنته وبكاءها عندما رأته بهذه الحالة"، تضيف "السعودي".
خلال رحلة المعاناة تلك، لم يألُ "الخور" وزوجته جهداً، ولم تتوقف محاولاتهما لعلاج قدمه المتبقية، لكنَّ حالته تطلبت علاجاً خارج قطاع غزة، ولذلك مضى في استخراج الأوراق الطبية والمستندات اللازمة، ليًصدم في نهاية المطاف، برفض الاحتلال الإسرائيلي، -الذي يحتل المعابر ويسيطر عليها-، السماحَ له بالسفر بحجة وقوعه في سن لا يسمح بالسفر -حسب زعم الاحتلال-.
ويناشد "الخور" وزوجته المؤسسات الدولية والإنسانية، "للنظر بعين الإنسانية والدعم والمساندة لحالته، والمسارعة في سفره لإكمال علاجه في الخارج، قبل فوات الأوان".
اخترنا لكم: محرقة خيام الأقصى... أهوال مرعبة يرويها الناجون: "رأينا الموت بأعيننا!"