لا يتوقّف الضغط الذي يمارسه جيش الاحتلال بعمليات التهجير والتدمير الممنهجيْن لمحافظة شمال قطاع غزة، والمستمرة منذ 32 يوماً. لا بل هو ينفّذ، تحت غطاء الانشغال الدولي بالانتخابات الأميركية والجبهات المفتوحة في لبنان واليمن وإيران، ثاني أكبر عملية تجويع منذ بداية الحرب، حيث لم يسمح منذ أكثر من 40 يوماً بدخول أي نوع من المساعدات إلى المناطق المحاصرة، في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، التي يسكنها الآلاف من الأهالي حتى اليوم. كما يمنع دخول أي كميات مجدية من المساعدات والبضائع التجارية إلى باقي مناطق شمال وادي غزة، والتي تزدحم بأكثر من 400 ألف نازح.
ولا يقتصر سلوك التجويع الممنهج هذا، على منع دخول المئات من الشاحنات التي تنتظر على المعابر الخارجية فحسب، إنما يشمل أيضاً منع اللجان الشعبية والمؤسسات الأهلية والدولية من ممارسة دورها الإغاثي، إذ اغتال العدو، الأسبوع الماضي، كل الشخصيات المحلية التي كانت مسؤولة عن آلية توزيع المساعدات، كما منع المؤسسات الدولية من ممارسة مهامها، فضلاً عن تعمّده استهداف وحدات التأمين التي كانت تعمل على حماية شاحنات المساعدات من السرقة. وعليه، ينتهي الحال بالعدد المحدود من الشاحنات التي يُدخلها الاحتلال إلى شمال وادي غزة بغرض الاستعراض والتعمية، إلى السرقة والنهب.
هذه الوقائع انعكست على الأسواق التي هي مرآة الوضع الإنساني؛ إذ فُقدت كل أنواع اللحوم والخضر منذ خمسة أشهر، وارتفعت، منذ بدء العملية العسكرية في جباليا، أسعار المعلّبات الرديئة إلى عشرة أضعاف سعرها. ويقول أبو أحمد مقاط، وهو أحد النازحين من جباليا البلد، لـ"الأخبار"، إن «سعر رأس البصل الواحد يصل إلى 30 دولاراً، ورأس الثوم إلى 40 دولاراً، وقرن الفلفل الأخضر الواحد إلى 10 دولارات. أما البندورة فلا نتذكّر شكلها ولا طعمها، واللحوم نسيناها تماماً، والمعلّبات ارتفع سعرها. نحن محاصرون من الاحتلال ومن التجار".
وفي الوضع الذي يغيب فيه الدور الحكومي والأمني في ضبط السوق، يتغوّل التجار المحليون، بل ويشاركون العدو في عمليات التجويع. ويقول الناشط أحمد جودة، في منشور على «فيسبوك»، إن «التجار في شمال القطاع وجنوبه، يمرّرون السلع والبضائع التي تدخل إلى القطاع بثلاث مراحل، الأولى هي العرض الأول، ثم التخزين، ثم تعطيش السوق من خلال شراء كل ما هو متوفّر من السلع، ثم تنقيط كميات قليلة ومحدودة من البضائع المخزّنة». ودفع ذلك الآلاف من المواطنين إلى المطالبة بمقاطعة الأسواق الشعبية، بل وتنظيم حملات من العشائر لإغلاق بسطات الباعة ومحالّ التجار الكبار بالقوة. ويقول الحاج أبو حامد، في حديث إلى «الأخبار»، إن "مخازن التجار ممتلئة بالبضائع، وأولادنا لا يجدون قوت يومهم. نحن نموت جوعاً. الاحتلال معروف بإجرامه. أما أبناء جلدتنا فلن نسمح لهم بظلمنا".
من جهتها، تؤكد مصادر في مؤسسات المجتمع المدني، لـ"الأخبار"، أن جيش العدو يتعمّد منذ 30 يوماً منع إدخال أي من البضائع والمساعدات إلى شمال القطاع، كما أنه لا يسمح لطائرات الإغاثة العربية بإلقاء المساعدات، الأمر الذي من شأنه أن يعيد إنتاج المجاعة على نحو أكثر سوءاً، ولا سيما أن العدو يسيطر على المناطق الزراعية في شمال القطاع، والتي مثّلت في فترة المجاعة الأولى المنقذ، من خلال جمع الأعشاب والنباتات البرية التي تحوّلت إلى مصدر الطعام الوحيد آنذاك.