في الوقت الذي تواصل فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها البربري على قطاع غزة في ظل صمت دولي وتخاذل من كثير من الأشقاء حيث تمكنت سلطات الاحتلال من إعادة إحتلالها لقطاع غزة، تواصل قوات الاحتلال مخططاتها الإحتلالية الهادفة لإعادة رسم وتشكيل خريطة قطاع غزة وكذلك إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والعمراني والإقتصادي للقطاع بشكل لم تتضح معالمه النهاية بعد.
إن ما تقوم به سلطات الاحتلال لا يشكل تهديداً مباشراً وخطيراً لهوية المكان ومستقبل المواطنين الفلسطينيين فحسب بل سيكون له تأثير عميق على حياة أبناء الشعب الفلسطيني اليومية، كما سيؤثر على علاقتهم بأرضهم، ويهدد بتحويل قطاع غزة إلى كانتونات ومناطق منفصلة ومعزولة عن بعضها البعض، يتحكم فيها الاحتلال عبر حواجز عسكرية ونقاط تفتيش ومحاور فاصلة، الأمر الذي يعرقل حركة المواطنين الفلسطينيين ويقيّد تواصلهم الطبيعي.
وتستخدم سلطات الاحتلال في تنفيذ مخططاتها الأنفة الذكر العديد من الوسائل منها إستخدام القوة العسكرية المفرطة وغير المبررة بحق المدنيين العزل لإجبارهم على النزوح من مناطقهم كما يحدث الان في شمال قطاع غزة ومدينة رفح ومدينة الزهراء، وفرض سيطرتها العسكرية المباشرة على جميع القطاع، والاستمرار في مساعيها لتقسيم القطاع إلى كانتونات ومعازل منفصلة عن بعضها البعض.
ولا شك أن مواصلة سلطات الاحتلال عملها في تقسيم القطاع بعد أن نجحت باحتلاله وفرض سيطرتها عليه للعام الثاني على التوالي يوضح حقيقة النوايا الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، كما يعكس الاستراتيجية التي يتبناها الاحتلال الإسرائيلي لتغيير الخريطة الجغرافية والسياسية والديمغرافية للقطاع، وذلك عبر طرد المواطنين الفلسطينيين وإقامة محاور عسكرية عازلة بين المناطق الفلسطينية تمنع أي تواصل حر بين المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في القطاع، وتُضيّق عليهم خيارات الحركة والبقاء.
ومن أبرز هذه العمليات التي تقوم بها سلطات الاحتلال استمرار التوسع فيما يسمى محور الزهراء "نتساريم" في مدينة الزهراء جنوب مدينة غزة، حيث تحولت هذه المنطقة بعد تدمير جميع الأبراج والمنازل فيها والقيام بعملية تطهير عرقي للسكان فيها الى بؤرة نشطة للنشاط العسكري الإسرائيلي تحت ذرائع "أمنية" كاذبة مع إقامة طرق عسكرية جديدة، ونقاط تفتيش عسكرية، وأبراج مراقبة ترتبط جميعها بمحور استراتيجي يمتد نحو الشمال. ومن خلال توسيع هذا المحور كما تؤكد العديد من المصادر الإعلامية، تسعى سلطات الاحتلال إلى تعزيز نفوذها العسكري الميداني في المنطقة، وتحويلها إلى منطقة انطلاق لأي عمليات عسكرية مستقبلية.
في الوقت نفسه، تشهد منطقة رفح جنوب القطاع توسيعًا في محور صلاح الدين "فيلادلفيا"، الذي يُفرض كحاجز إضافي يُفاقم من العزلة المفروضة على قطاع غزة. هذا العزل المتعمد يعزز من الصعوبات المعيشية ويزيد من مأساة المواطنين الفلسطينيين، خاصة في ظل تفاقم الظروف الإنسانية وتردي الخدمات الأساسية.
وفي استمرار لتنفيذ مخططها المعروف باسم "خطة الجنرالات" أنشأت قوات الاحتلال محوراً جديداً يفصل محافظة شمال قطاع غزة عن بقية القطاع، حيث قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتقسم المنطقة بشكل عرضي على محور يصل بين الحد الفاصل بين قطاع غزة وأراضي 1948م مع غلاف غزة والشاطئ وبين جباليا والتجمعات العمرانية والبشرية المجاورة ومدينة غزة. ويقع المحور الجديد على بعد نحو 5 كيلومترات جنوب الجزء الشمالي من حدود قطاع غزة ويوازي أفقيا من الشمال محور الزهراء "نتساريم". ووسعت دبابات وقوات مشاة الاحتلال انتشارها على المحور الجديد لفصل الشمال عن بقية القطاع، كما نشر جيش الاحتلال تقنيات حديثة للتعرف على الوجه في المحور الجديد لفحص المواطنين الفلسطينيين الذين يجبرون على النزوح إلى محافظة غزة.
ولكن ورغم كل ذلك فإن ما يثير القلق بل والإستغراب الشديد هو غياب أية ردود أفعال حقيقية من قيادات الفصائل الفلسطينية الكبيرة أو حتى استجابة جادة إذ يبدو أن شاغلها الرئيسي يتمثل بشكل رئيسي في إطلاق التصريحات البليغة والخطابات ذات الصبغة الدينية المتكررة التي تصدر من الخارج دون أي إدراك حقيقي لما تقوم به سلطات الاحتلال.
ورغم هذا الوضع الخطير جداً ما تزال قيادات الفصائل بعيدة كل البعد عما يحدث على أرض الواقع، غارقة في الاجتماعات ذات الطابع الإعلامي والشعارات التي تحاول بها من بعيد دغدغة عقول المواطنين بينما يستمر الاحتلال في مساعيه لتغيير وجه القطاع ومستقبله. هذا الانفصال عن معاناة الناس يضع علامة استفهام حول المسؤولية الأخلاقية والدينية والوطنية لهذه القيادات، التي تحتاج لإعادة النظر في أولوياتها والعودة إلى جذور مهمتها في الدفاع عن الشعب ومقدراته، ولكن ليس قبل أن تتنازل عن مصالحها الشخصية والحزبية لصالح المواطن المكلوم.
قطاع غزة اليوم يعيش مواجهة حقيقية مفتوحة وغير متكافئة مع مشروع استعماري تهويدي يهدف للسيطرة على الأرض والتحكم في من يبقى من المواطنين العزل، مما يقتضي القيام بجهد صادق لإعادة الوحدة للشعب الفلسطيني وفق مخططات واستراتيجية جدية واضحة بعيدة عن الارتباطات الإقليمية. إن القرار الفلسطيني المستقل المدعوم فلسطينياً وعربيا واسلامياً والجهد الجماعي الموحد هما السبيل الوحيد لمواجهة وإحباط المخططات الصهيونية، فلا يمكن لشعبنا بغزة أن يصمد في وجه هذا الإعصار الصهيوني العاتي دون العودة للقيادة الفلسطينية الشرعية ممثلة بمنظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية.
إن عزل القطاع بهذا الشكل الممنهج يتطلب وقفة حقيقية وشجاعة لترتيب الصفوف وتوحيد الجهود، فشعبنا الان بأمس الحاجة لحماية حقوقه ووقف التوغل الإسرائيلي فهل من مجيب؟؟؟؟