قائمة الموقع

بالصور الفحمُ ريشتُها وشادرُ الخيمة لوحتها.. فتاة لهوانيةٌ توثق رحلة النجاة من ممرِ جهنم!

2024-11-12T10:37:00+02:00
الفنانة الاء محمد أبو سعدة
شمس نيوز - حاص شمال غزة

بالقرب من مَوْقِدِ نار في زاويةِ خيمةٍ متراصةٍ إلى جانب الخيام في مخيم اليرموك وسط مدينة غزة، تراقب فتاةٌ -لا يبدو أنها تجاوزت السادسة عشر من عمرها- خُبوَ النار، تمدُ ملقطاً أكله الصدأ لأخذ بعض من الجمر، تضعها على الرملِ بجانب المَوْقِدِ، بعدها تجلب في يدها قطرات ماءٍ، وتبدأ بإسقاطها نحو الجمر الملتهب، ومع ملامسة القطرات للجمر تنبعث خطوط الدخان الأبيض على وقع معزوفة صوت اطفاء الجمر، عندها يتحول ذلك الجمر الأحمر إلى اللون الأسود، إنه "الفحم"، تكبشُ الفتاة فحمتين أو ثلاثة، وتذهب إلى جدار خيمتها من الخارج وتبدأ مرحلة "الرسم".

الفتاة الفنانة آلاء محمد أبو سعدة (نازحة من بيت لاهيا) تستخدم الفحم الأسود الذي يشبه قلب الاحتلال للتعبير عن مأساة النزوح والقتل والتشريد والويلات هذا كل عدتها وما تملكه من أدوات، لكنها تقول "إنَّ عتادها الأكبر في رسوماتها هي زخات (الدموع) وأنين (الحزن) الذي ينخر قلبها، لتعبر بالدموع وأنات الحزن عمَّا حلَّ بغزة وأهلها من نكبات وويلات".

نعم.. إنه الرسم الذي أصبح بالنسبة لتلك الفتاة البائسة التي سرق منها غول الاحتلال ألوانها، ودفن لوحاتها تحت منزلها المدمر، بالنسبة لها أنَّ الرسم في هذا الوقت هوية لا هواية، رسالة لا مجرد خطوط، صرخة أقوى من أي تعبير، تلك الصور الخطية والرسومات العميقة التي رُسِمَتْ تحت قذائف المدفعية، وقنابل MK-84، باتت الملاذ الأخير بالنسبة للرسامة الاء لتعبر فيها عمَّا يجري من مآسي في غزة.

الكلمات تبدو خرسى أو أنَّ العالم بات لا يسمع ويبدو أنَّ الأخيرة هي الأدق، فلجأت الفتاة أبو سعدة لتعبر عن حياة النزوح والقتل والتشريد عبر الرسم، كملاذٍ أخير علَّ تلك الخطوط أنْ تحرِّكَ ضمير العالم الأصم عن آلام غزة، ذلك العالم الحنون الذي يسمع جيداً ويستجيب لنباح كلبٍ جائع على باب حانةٍ مغمورة في شارع غير معروف في مدينة بريمن في المانيا.

الاء أبو سعدة ليست الرسام دافنشي ليهتم العالم لأمرها ويتابع رسوماتها ومعاناتها، لكنَّ تلك الفنانة البائسة في كل الأحوال عاشت ظروفاً أقسى وأشد من التي يعيشها أي فنان في تلك المعمورة، فهل مرَّ فنان بأنْ يقصف منزله فوق رأسه، وبعدها بساعات يحاصر تحت الركام، ويطلب منه مغادرة منطقته في نزوح هو الأصعب في تاريخ البشرية!.

لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام

وتقول آلاء بحديثها عمَّا مرَّت فيه: "نزحت من بيت لاهيا قسرياً بعد هجوم مباغت من قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي ضربت كل المنطقة التي أسكنها بالمدفعية، واستهدفت السكان برصاص القناصة، وعبر الروبوتات العسكرية"، تضيف "لم أستطع حمل أيٍ من أدواتي، لأنها باختصار هشمت تحت بيتنا المدمر".

تكمل أبو سعدة: "نزحنا إلى جانب مئات العائلات، بعد صبر وصمود أسطوري في منطقتنا، وحاولنا أن نظل لكن في كل لحظة كانت تشتد حلقات العدوان، قام الاحتلال بإخراجنا بالقوة.. وأمرنا باتباع مسلك معين للخروج".

"المسلك الذي أمرنا الاحتلال بالسير عليه وصولاً للخروج من بيت لاهيا إلى غزة كان من أصعب الأمور.. لا يمكن أن يتخيلَ أحدٌ ما في الكون ذلك المشهد، جماعات وأفراد خرجوا من منطقتهم التي عاشوا فيها هم وأجدادهم منذ مئات السنين، غادروا تلك المنطقة ولم يأخذوا معهم سوى الكثير من الألم، المسلك الذي سرنا فيه كان عبارة عن مسلك للموت، الشوارع والبيوت فيه مدمرة للغاية والدبابات كانت على يمينه وشماله، تحارصنا وترعبنا، وتطلق النيران من وقت لآخر... الرعب دبَّ في قلوبنا وقلوب الأطفال والشيوخ من هول المشهد"، كما تصف أبو سعدة المسلك الذي امرهم الاحتلال بالخروج منه الى الجنوب.

حجم التعب والارهاق الذي أصاب الاء أبو سعدة وعائلتها وعموم النازحين لا يمكن وصفه، إذ تشير آلاء إلى أنَّ الناس ساروا ما يقرب 15 كم متر مشياً على الإقدام، ناهيك عن تعرض بعضهم للقتل والاصابة والاعتقال.

حطت آلاء أبو سعدة رحالها في مخيم اليرموك وسط مدينة غزة، ولم تستجب لأوامر قوات الاحتلال بترك شمال القطاع والتوجه جنوباً، لأمور عدة أولها كذب الاحتلال أنَّ جنوب القطاع آمن، وثانيها الصمود في الشمال وعدم تركه لقوات الاحتلال التي تنفذ فيه سياسات خبيثة تهدف لتهجيرهم.

تقول أبو سعدة "اللحظة التي وصلت فيها إلى مخيم اليرموك، وانتصبت فيها خيمتنا للنزوح، قررت أنْ ارسم على شادر (جدار) الخيمة، لم أجد أدوات فاستعنت بالفحم، وبدأت توثيق كل ما مررت فيه من ألم، لتوثيق تلك الجرائم".

لم تتوقف أبو سعدة عند وصف ما حلَّ بها وبصديقاتها وبجيرانها وعموم أهالي منطقتها من ويلات ونكبات، بل اتخذت قراراً في رسم لوحات فنية تحث فيها الناس في شمال غزة للصمود والتجذر والتشبث بالأرض، ورفض الانصياع إلى أوامر الاحتلال العسكرية بالتوجه نحو الجنوب.

لوحات أبو سعدة انتشرت في كل مكان داخل مخيم اليرموك، فتجد لوحة تعبر عن صعوبة النزوح وشظف الحياة في ذلك المخيم البائس، ولوحة أخرى توثق فيها مسلك الموت الذي سارت فيه الرسامة البائسة عندما خرجت من منطقتها تحت قذائف الاحتلال وهول عدوانه، ولوحة أخرى لطفلٍ صغير جائع يقف على تكية طعام، ولوحة أخرى حملت خريطة فلسطين وكتب عليها (إن عشت فعش حراً أو مت كالأشجار وقوفاً).

وحتى حينه ما تزال آلاء أبو سعدة تعيش في المخيم البائس، توثق جرائم العدو عبر لوحاتها بالفحم، وتؤدي دوراً مهماً في حث الناس على الصمود والصبر والثبات، وما تزال تبحث بين الخيام عن فحم بديل عن أدواتها التي سرقها الغول الإسرائيلي.

 










 

اخبار ذات صلة