مع إشراقةِ كلٍ صباحٍ من صباحات غزة التي تصاحبها غارات تمطرُ الغزيين بحمم النار، يهرعُ الصحفي الأصم محمود أبو ناموس لالتقاط هاتفه المحمول، ويلبس درع الصحافة ويعتمرُ خوذتها، وينطلق في مهمته اليومية وسط القصف المجنون وأنين الضحايا في شمال غزة، ليوثق وينقل معاناة شعبه لملايين من الصم حول العالم؛ ليَكونَ بذلك أول صحفيٍ أصمٍ يوثق جرائم العدو بلغ الإشارة.
الصحفي الأصم أبو ناموس تمكَّنَ من أنْ يحول عجزه إلى قوة، وصمته إلى صرخة، يَسْمَعُ صداها مجتمع الصُّمِ حول العالم، تلك المهمة بالنسبة له ليست مجرد نقل خبر، إنما هي رسالة عميقة تتمثل بنقش معاناة شعبه على جدار العالم الصامت، ذلك العالم الذي يبدو أنَّه هو من لا يسمع جيداً، وأصيب بالبكم والصمم أمام الجرائم الإسرائيلية في غزة.
قصة الصحفي الأصم محمود أبو ناموس بدأت حين وجد نفسه وحيداً في ميدان التغطية بلغة الإشارة، ذلك الفراغ الذي ترك مجتمع الصم منسيّاً ومهمشاً وسط دوامة المعاناة في غزة، لم يكن اختيار محمود لهذا الطريق صدفة، بل جاء بعد لحظة مؤثرة حين كان في مستشفى الأهلي العربي (المعمداني) ، عندما نقلت سيارة الإسعاف صديقاً له من مجتمع الصم، أصيب جراء غارة إسرائيلية، فتهافت الصحفيون لإجراء مقابلة مع ذلك الجريح الأصم، لكن حاجز اللغة حال دون فهمهم لصراخه الصامت، هنا بادر محمود إلى ترجمة إشارات صديقه، وكان هذا الحدث نقطة تحول؛ إذ أدرك حينها أن عليه حمل صوت الصم من غزة إلى العالم، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبح يكشف جرائم العدو بحق غزة وأهلها لملايين من الصم حول العالم.
منذ تلك اللحظة، تحوّل محمود إلى منارة لمجتمعه (الصُم)، ليصبح هو جسر التواصل بين الصمُ والسامعين، بين من يعيش الألم في صمت ومن يتوق إلى فهم هذا الصمت، لم يكتفِ بنقل الأخبار، بل قام بتأسيس مجموعات اخبارية خاصة بالصم على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ ينقل لهم لحظة بلحظة تفاصيل العدوان في شمال قطاع غزة، يشرح لهم مجريات الأحداث التي لم تعد حكراً على صوت الصواريخ، بل أصبحت لغة الإشارة التي يتحدث بها محمود، تصل إلى كل من الصُم في هذا العالم.
يرفع محمود أبو ناموس رأسه ويلوح بيديه إلى زوجته فاطمة التي تترجم لغة اشارته، فتقول لمراسل "شمس نيوز" نقلاً عنه :"رسالتي اعتبرها رسالة سامية، أود أن انقل معاناة الصُم إلى العالم، وأن اخاطب الصم باللغة التي يفهمونها، هناك ملايين الصم حول العالم مغيبين عن الأحداث في غزة، لذا آثرت لنقل ما يجري عبر لغة الإشارة".
يضيف أبو ناموس عبر لغة الاشارة: "أقف إلى جانب الزملاء الصحفيين السامعين، وأبدأ بترجمة اشاراتهم لعالم الصم من خلال عبر تطبيقات التراسل الاجتماعي"، متابعاً: "أنقل للعالم صورةً عن حياة غزة اليومية، مدينة محاصرة، تعاني من ويلات الحرب، والقهر، والمجاعة، والابادة، والمحرقة، أحاول أنْ أفجر الصمت ليصل إلى الصدى أعماق قلوب الناس من مجتمع الصم".
"للصمت لغة، وللغة الإشارة صوتاً يخترق الحدود".. بتلك الكلمات حاول أبو ناموس أن يوضح أثر رسالته ونقله للأحداث من خلال لغة الإشارة، مشيراً إلى أنه استطاع أن يُكِّونَ مجموعات من الصم حول العالم تتفاعل بطريقة إيجابية مع القضية الفلسطينية.
ويذكر أبو ناموس أنَّ الهدف من وراء عمله يتجاوز مجرد نقل الأخبار، فهو يسعى ليمنح الصم فرصة للمشاركة، وللتفاعل مع قضايا شعبهم، من خلال نقله مشاهد حقيقية لما يعيشه الناس تحت القصف، وبالتالي يضمن تفاعلهم داخل مجتمعاتهم المتعددة لصالح القضية الفلسطينية التي تعاني من مظلومية كبيرة.
وأكثر ما يؤلم الصحفي أبو ناموس هو استشهاد ثلاثين من أصدقائه الصُم في هذا العدوان الغاشم، إذ يقف أمام هذا العدد في أسىً، حاملاً رسالتهم للعالم، ليخبرهم أن مجتمع الصم لا يقل معاناةً، بل يعاني بصمت في صراع غير متكافئ، يقول عن زملائه :"للأسف عاشوا بصمت، وقتلوا بصمت على مرأى ومسمع العالم، لكن سأوثق قصصهم، وانقلها للعالم أجمع".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
وخلال نقله الأخبار لمجتمع الصُّم عبر لغة الاشارة، شهد محمود مواقف تهزّ أعتى القلوب، ففي أحد المرات، وقف محتاراً بين التزامه الصحفي وواجبه الإنساني، حين فقد صديقه الأصم زوجته في غارة إسرائيلية، كان عليه أن يُكمل التغطية ولكنه اختار أن ينهي سريعاً ليواسي صديقه ويدعمه نفسياً. وفي مرة أخرى، شهد محمود لحظة لا تُنسى؛ عندما رأى طفلة صغيرة تبكي ببراءة لأن فستانها تلطخ بدماء والدتها التي فارقت الحياة لتوها، ظناً منها أن والدتها ستعنفها بسبب اتساخ الفستان، دون أن تعرف أنها لن تعود أبداً.
ومن التحديات التي تعترض عمل محمود أبو ناموس هو استمرار العدوان الإسرائيلي المتواصل الذي يخطف أرواح الناس دون وجه حق، إلى جانب عدم قدرته على مجاراة إيقاع القصف المتزايد والجرائم المتسارعة، إذ يغطي في كل لحظة عشرات الغارات، بينما تسقط تحت تسارع الغارات الكثير من الاخبار في هذا العدوان الهمجي.
كذلك ويفتقر أبو ناموس إلى الأدوات اللوجستية التي تساعده في عمله، إذ يتطلب عمله كاميرا بمواصفات قياسية، وهاتفٍ حديث، وأجهزة مونتاج في إبطاء عزيمته، لكنه يعود ويكرر: "أنَّ ارادته لن تنكسر رغم توالي الغارات وعجزه للوجستيات، وسأواصل رسالتي لملايين الصم حول العالم".
ويواصل محمود أبو ناموس كسر جدران الصمت والوصول إلى مسامع القلوب، من خلال نقله الأخبار والتغطيات الساخنة دون ملل او كلل أو وجل، ليقول للعالم أن لغة الصمت أبلغ وأعمق من أي كلمات، وأن لكل جرح لغة تعبر عنه، وأنَّ قوة الصمت تتجاوز كل الحدود، وأن قادر على.