يصب "جعفر" الماء على الطين، ويمزجهما معاً، أمام مصنعٍ صغيرٍ داخل خيمةٍ بمنطقة الزوايدة وسط قطاع غزة؛ ليحوِّلها، بطرق بدائية، بعد مرورها في سلسلة من المراحل، إلى أوانٍ فخاريةٍ، يستخدمها النازحون كـ"صحون وزبادي" لطهي الطعام وتقديمه، وتخزين مياه الشرب، بعد أن فقدوا الأواني البلاستيكية الخاصة بالمطبخ بسبب تدمير بيوتهم ونسفها، في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ أكثر من 405 أيام على التوالي.
مع ساعات الفجر الأولى، يشرع "جعفر" والحرفيون العاملون معه في خلط الطين بالماء لتليينه، ثم تصفيته من الشوائب والحصى والورق بعناية، وتنقيتها عن طريق "الكربالة" -وهي أداة بدائية تحتوي على ثقوب ومسامات-، ثم تركها للتجفيف تحت أشعة الشمس، وهي أولى خطوات صناعة الفخار.
وتُعدُّ صناعة الفخار، من أقدم المصنوعات الشعبية في قطاع غزة، ويعود تاريخ نشأتها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وعادت إلى الحياة زمن الحرب، وباتت تُشَكِّل مصدر رزقٍ أساسي لكثير من العاملين في هذه الحرفة.
توارث "جعفر" تلك المهنة عن أجداده، وكانت عائلته تملك مصنعاً يُنتج يومياً قرابة 1500 قطعة من الأواني الفخارية المتنوعة، كـ"الطناجر والأباريق والقُلل والزبادي وغيرها" في شمال قطاع غزة، لكن ذلك المصنع تدمر بفعل التوغل البري الإسرائيلي، ومع نزوحه وعائلته إلى جنوب وداي غزة ازدادت المعاناة وتفاقمت الأوضاع صعوبةً، وهو الأمر الذي دعاه إلى إيجاد بديل من خلال إقامة مصنع صغير لا يزيد إنتاجه عن 100 قطعة يومياً داخل خيمة بالزوايدة.
وفي ظل الواقع الكارثي الذي يعيشه أهالي القطاع جراء العدوان المستمر، من قتل، وتدمير، ونسف للبيوت، وتهجير ونزوح مستمر، ونقص الأدوات المنزلية وفقدها تحت ركام المنازل المدمرة، أضحى الفخار البديل الوحيد للنازحين وزاد إقبالهم على شراء الأواني الفخارية؛ كونها تستخدم في طهي الطعام وتقديمه من جهة، ولما له من مزايا صحية من جهة أخرى.
يقول جعفر: "مع استمرار الحرب ازداد طلب الناس على الفخار بالحد الذي يجاوز طاقة إنتاجنا اليومية، حيث نصنع الأواني ونشكلها يدوياً ونبذل جهوداَ كبيرةً رغم قلة الموارد".
وتمتاز الأواني الفخارية بالعديد من المزايا الصحية؛ إذ تسمح بتوزيع الحرارة بالتساوي وبطء خلال عملية الطهي، وهي خالية من المواد الكيميائية الضارة الموجودة في بعض الأواني المعدنية، وبفضل خصائصها المسامية تُقلل الحاجة لاستخدام الزيوت؛ مما يجعل الوجبات صحية أكثر، كما أنها تساعد في تنظيم درجة الحموضة؛ مما يعزز صحة الجهاز الهضمي. -وفق مختصين-.
يدخل الطين مرحلة التشكيل، إذ يضع "جعفر" قطعة من الطين البني اللين، فوق عجلةٍ كهربائيةٍ دوَّارة، ويعجنها يدوياً ويسكب عليها بعض الماء لتشكيلها ونحتها بحركة دورانية دقيقة، وفق قوالب يطلبها الزبون، قبل الانتقال لمرحلة الحرق في التنّور.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
أما عن التحديات التي يواجهها، فأبرزها عدم توفر الآلات اللازمة لخلط الفخار وتشكيله، إضافةً إلى أزمة انقطاع التيار الكهربائي، وهو ما دفعه إلى استئجار خط كهربائي من ألواح الطاقة الشمسية لبضع ساعات في اليوم، بتكلفة باهظة الثمن للساعة الواحدة؛ لتشغيل آلات بدائية توفرت لديه، يقول: "بسبب الكلفة العالية لاستئجار خط الطاقة الشمسية، والذي يبلغ تقريباً (30 دولار) للساعة الواحدة، اضطررنا لتقليل ساعات العمل من 12 إلى 4 ساعات يومياً، وهو ما أثر على الإنتاجية بشكل أكبر".
في زاوية أخرى من المصنع الصغير، يجلس "سمير" وهو أحد العمال، بجوار فرن طيني، تتصاعد منه ألسنة اللهب، لافحةً وجهه المرهق، ويضع القوالب الجاهزة داخله، بغية تماسك جزيئات الصلصال واتحادها معاً لتكون جسماً واحداً، ثم يتركها لتبرد، وبذلك تصبح جاهزةً للبيع والاستخدام.
في جهة أخرى، تتفحص الخمسينية "أم سعيد"، قطع الفخار الجاهزة، وتختبر مدى صلابتها، إذ تمكنها خبرتها التي تعلمتها من والدتها منذ أن كانت صغيرة، في انتقاء أفضل القطع جودةً وتشكيلاً، تقول: "لجأتُ إلى الفخار بعدما دمر الاحتلال بيتي، وأنا استخدام الأواني الفخارية لوضع الطعام بداخله، وكذلك لتبريد الماء، وقد كانت والدتي في القدم تستعمل تلك الطرق قبل شراء الثلاجات".