إذا ما دخلت حي الشجاعية من أي ناحيةٍ كانت، وسألت أصغرَ طفلٍ يلهو في حاراتها عن "بيت الصمود"، أو سألت عن البيت المهدوم ذا السقف المائل الذي بالكاد تحمله دعامة خشبية، لدى سؤالك أي من أهالي الحي سيصحبك مباشرة إلى بيت السيدة "أم إسماعيل"، لدى وصولك إلى ذلك البيت الذي قصف لستِ مرات في هذه الحرب المجنونة ستخرج لك على الفور سيدة تعطيك جرعة من صمودها الأسطوري، وهو صمود ما بعده صمود.
"واللهِ لو هدموه 1000 مرة، بل مليون مرة.. لن أتزحزح من الحي!".. هذه كلماتٌ تقولها السيدة الستينية ام إسماعيل عويص، بكل إصرار وثبات، وكأنها نذرت حياتها لهذا المكان الذي لا تعترف فيه بالهزيمة، إنها السيدة التي تصمد في الحيِ والمدينة التي تمنى رابين يوماً لو أنه يستفيقُ من نومه ليجد البحر قد ابتلعها.
حي الشجاعية الذي تكثر فيه الحكايات عن النضال والبقاء والصمود تلخصه قصة ام إسماعيل عويص، هي قصة ليست صعبة ولا طويلة، إنها باختصار قصة سيدة عشقت وطنها، ولم تستجب لأي من التهديدات الإسرائيلية، ولم تقنعها الأحزمة النارية ولا منشورات الدعاية الإسرائيلية أن تغادر منزلها، الذي قصف 6 مرات في هذه الحرب المجنونة، وفي كل مرة كانت تجمع شتات ما تبقى من ركام منزلها، وتُصلح ما يمكن إصلاحه.
بدأت قصتها عندما كان منزلها يتكون من ثلاثة طوابق، واستهدفته الطائرات الحربية والمدفعية الإسرائيلية مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة يتعرض البيت فيها لتدمير؛ كان أهل البيت يعودون ليرمموا ما يمكن ترميمه برفقة أم إسماعيل، لتعيش فيه هي وأولادها الذي استشهد أحدهم فيما سجل واحداً آخر في عداد المفقودين.
وقصف المنزل في المرة الأولى مع بداية العدوان، وتلاها قصفه مرتين إبان اجتياح حي الشجاعية الأول أواخر العام 2023م، وفي الاجتياح الثاني منتصف العام 2024م قُصف مرة أخرى، وعندما دمرت المنازل المجاورة، تضرر مرتين إضافيتين، ومع كل ذلك، كانت ام اسماعيل تُعيد بناء ما تهدم، وتحارب على جبهتها الخاصة لردم الفجوات التي أحدثها القصف.
المنزل يبدو من الداخل والخارج في حالةٍ يرثى لها، هو عبارة عن ثلاثة طوابق خرت جميعها حتى بات الطابق الثالث مكان الطابق الأول، وانحرف سقف الطابق الثالث ليصبح بزاوية حادة، وهو الذي تحمله دعامة خشبية، كما واستعاضت العائلة عن مطبخهم الفاره، بزاوية من البيت ليجعلوها مطبخاً، تقول ام إسماعيل بابتسامةٍ تحاول أن تخفي ما في قلبها من آلام: "صحيح أن المطبخ بائس للغاية، لكن عندي إياه بيسوى الدنيا... يكفي أنني في بيتي".
منزل أم إسماعيل ليس مجرد جدران متهالكة مهدومة، بل هو ذاكرة من الماضي والحاضر معًا، يعجُّ بالصور والمشاهد التي لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتها، تقول أم إسماعيل: "هذا البيت هو حياتي، هو ذكرياتي، هو ضحكات أولادي، وأماكن أحزاننا... عندما أرى الركام، أتذكر كل لحظة فيه، وكل طفل جرى على أرضه"، تضيف وهي تشير إلى جدران المنزل المدمرة: "كل حجر في هذا البيت حملته بيدي، بيدي أنا وزوجي وأولادي. بعت ذهبي لأساهم في بناءه".
وتحمل جدران منزل الصمود ذاكرة لا يمكن إطفاؤها، وتستعيد أم إسماعيل، بعيونٍ غارقة في الحنين: "أتذكر كيف كان يجتمع نساء الحارة في بيتي كل مساء، نتسامر ونتبادل الحديث حتى ساعات متأخرة من الليل... دمرونا، ولكن لن يُجبرونا على مغادرة أرضنا".
وفي كل مرة كان البيت يتعرض للقصف، كانت سيدة الشجاعية التي تحمل في قلبها جروحَ الزمان وتاريخًا من الصمود الذي لا يلين، تقول: "لن أخرج، أنا هنا، وفي أي وقتٍ اشتدت الغارات كنت أخرج لبضع أيام وأحياناً لحظات ثم أعود في النهاية، لن أرحل إلى الجنوب، ولن أذهب إلى مدارس الإيواء... أنا هنا في بيتي، ولن أتزحزح".
وفي قلب هذا الصمود، تُظهر الحاجة أم إسماعيل تعلقًا شديدًا بموروثها، حتى في أسوء الأوقات، "لقد دمرونا بكل شيء، ولكنني سأبقى هنا، في هذا المكان، حتى آخر لحظة من حياتي، هذا البيت ليس مجرد جدران، بل هو تاريخٌ لن يمحى".
وترد الحاجة على ممازحة من معد التقرير أنه سيكون هناك تعويض للراحلين من غزة، فترد بثقة ودون تردد: "لو وضعوا وزن كل حجر في بيتي ذهبًا، ما بترك هذا المكان، ولو عرضوا عليَّ العيش في سويسرا مقابل أن أترك الشجاعية، لن أختار غير بيتي المدمر، لا أستطيع العيش إلا هنا، بين هذه الجدران التي بنيتها بيدي، الذي شهد على كل أفراحي وأحزاني".
ورغم كل التدمير، لم تفقد أم إسماعيل عزيمتها، بل وجدت العزاء في زرع باحة منزلها، الذي زرعته بالريحان والباذنجان والنعناع، لتظل تذكر ابنها الشهيد إسماعيل الذي زرع الريحان، وأحفادها الذين زرعوا النعناع، تقول "عندما اشتم الريحانة.. أتذكر ابني إسماعيل!".
كل ما تتمناه أم إسماعيل عويص اليوم هو أن تعود الحياة إلى طبيعتها في بيتها المدمّر، وأن تنتهي الحرب التي أخذت منها أعز ما تملك، وأن تكتمل فرحتها بمعرفة مصير ابنها المفقود، تقول وهي تختتم حديثها: "أنا أوصي أولادي وأحفادي إذا ما توفيت أو استشهدت أن يحافظوا على أرضهم، وأن يظلوا صامدين في بيتهم حتى آخر نفس".
إنها قصة الصمود التي لا تفتأ تضيء دروب الشجاعية، حكاية أم إسماعيل التي أصبحت حكاية تحدٍ لا ينكسر، ورمزًا لصمود الأجيال التي تقاوم من أجل وطنها، حتى وإن كان هذا الصمود فوق أنقاض بيوتهم التي كانت يوماً ما مسرحًا للفرح والضحك والذكريات.