غاصت قدما سعيد أبو شرخ وأسرته المكونة من (5 أفراد) في رمال أشبه بالمتحركة، لم يتمكن من فتح عينيه جيدًا بسبب تراكم الغبار.. "امشي وما تطلع خلفك!"، هذه الكلمات التحذيرية الخطيرة أطلقتها طائرة كواد كابتر كانت تحلق فوق رأسه، تراقب تحركاته وسكناته، أشاح بكُم قميصه الأيسر بعض التراب الذي علق بين تجاعيد وجهه محاولًا رؤية طريق الخلاص.
كان سعيد وأسرته يسيرون على طريق ما يعرف باسم "شارع الرشيد" -البحر- الذي كان من أجمل الطرق في قطاع غزة، يزدهر بالأشجار الجميلة والعمارات السكنية والشاليهات والفنادق والقصور والمحال التجارية؛ لكنه تحول إلى كومة من الرمال المتحركة خلال حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة ضد قطاع غزة منذ أكثر من 412 يومًا على التوالي.
تسارعت نبضات قلبه بشكل كبير، وأصيب جسمه برجفة الخوف، عندما سمع طلقات نارية في محيط الطريق الذي يسير عليها، يقول لمراسلنا: "شعرت بالخوف وكنت أرى الموت أمامي فخفت كثيرًا على زوجتي المريضة وأبنائي الأربعة"، وبعد ساعتين تقريبًا من السير بالطريق الموحشة، شاهد سعيد جنودًا مدججين بالسلاح ينتظرون قدومه.
بعواء الكلاب التي تلهث أطلق جندي إسرائيلي العنان لصوته "من أين أتيت؟"، "لماذا جئت هنا؟"، "من تركت هناك؟" أمضى سعيد وأسرته نحو 5 ساعات بين سؤال وجواب داخل غرفة محصنة على طرف ما يعرف باسم "محور نتساريم" الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه.
انتهى التحقيق بعد ساعات عدة، واضطر سعيد وأسرته للسير على الأقدام مرة أخرى عدة كيلو مترات بالرمال المتحركة تجاه الجنوب، خارت قواه ولم يتحمل كثيرًا، وسقط أرضًا ولحقت به زوجته وأسرته قرب وادي غزة من الجهة الجنوبية.
دقائق قليلة حتى وصلت سيارة إسعاف ونقلت سعيد وأسرته على وجه السرعة إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط القطاع ليتلقى العلاج اللازم، وهناك روى سعيد لمراسل "شمس نيوز" تفاصيل مؤلمة عن الأسباب التي دفعته للنزوح من شمال القطاع إلى جنوبه بعد 410 أيام من صموده وأسرته الأسطوري رغم ما فعله جيش الإرهاب الإسرائيلي من مجازر وجرائم إبادة بحق أبناء شعبنا.
مجازر مروعة
حكاية سعيد وأسرته بدأت في بيت لاهيا أقصى شمال قطاع غزة التي تبعد بضع مئات الأمتار عن السياج الفاصل عن المستوطنات المحاذية، إذ كان يعيش حياة جميلة مع أسرته قبل أن يشن جيش الإرهاب الإسرائيلي حربًا ضروسًا ضد المدنيين في القطاع.
نزح سعيد من منزله منذ بداية الحرب إلى معسكر جباليا، وبعد انتهاء عملية جيش الإرهاب الإسرائيلي في بيت لاهيا عاد إلى منزله، وقام بترميمه وعاش بداخله وسط خوف شديد نتيجة القصف والمجازر التي يرتكبها الجيش.
المجازر البشعة لم ترهب سعيد وأسرته، والجوع الذي أنهك أجسامهم النحيلة لم يكسر إرادتهم، حيث صبر سعيد صبر أيوب وصمد صمودًا أسطوريًا: "نزحتُ أكثر من 5 مرات خلال الأسابيع الماضية نتيجة الهجمة الإسرائيلية المسعورة التي ضربت شمال القطاع مرة أخرى سواء باستهداف جباليا ومعسكر جباليا ثم بيت حانون وبيت لاهيا".
انهالت الصواريخ فوق رؤوس المدنيين أمام سعيد ولم يجزع: "بسبب استمرارنا وصمودنا وعدم اكتراثنا لتهديدات الاحتلال بالنزوح جنوب قطاع غزة بات جيش الاحتلال يستهدف المنازل السكنية المكدسة بالنازحين".
طريق الموت
في هذه اللحظة استوقفته مشاهد مؤلمة ومجزرة مرعبة حيث ترك لشريط ذاكرته سرد الحكاية: "قبل ساعات قليلة فقط من نزوحنا استهدف الاحتلال نحو 6 منازل تعود لعائلة غباين واستشهد داخلها عدد كبير من النازحين وبقيت أعداد أخرى تحت الأنقاض".
كان المشهد مرعبًا ومحزنًا، فقد ودع سعيد منزله والدموع تسيل من عينيه وآلام الحسرة تحرق قلبه، فلم يبقَ شيء على حاله، الدمار واسع جدًا، يقول: "نزحنا من منطقة بيت لاهيا مجبرين بعد دمار وخراب واسع حل في منطقتنا، كل منطقة نتجه إليها تتحول إلى كارثة".
انتقل سعيد وأسرته لمدرسة الفاخورة في معسكر جباليا، بينما اقتحمت دبابات الاحتلال وجرافاته العسكرية مشروع بيت لاهيا لتعيث به فسادًا وخرابًا ودمارًا كبيرًا، ليضيف سعيد: "نجونا من الموت بأعجوبة وتمكنا من النزوح قبل الحصار الذي يتعرض له سكان مشروع بيت لاهيا، الآن هناك الكثير من الشهداء والمحاصرين في مشروع بيت لاهيا، وهناك أعداد كبيرة لا نعرف ما هو مصيرهم".
"الكثير من المجازر التي ارتكبها الاحتلال تسببت باستشهاد أعداد كبيرة من الناس وما زال بعضهم تحت الأنقاض، ولا يوجد إسعاف، ولا دفاع مدني، ولا يوجد طعام، ولا شراب".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
فصل الشمال عن غزة
وعندما غادر سعيد منزله كانت طائرات الاحتلال تطلق قذائف فسفورية، بينما تطلق المدفعية قذائفها الحارقة؛ ما تسبب باستشهاد أعداد من النازحين بينما كانت "طائرات كواد كابتر" تراقب تحركاتهم وتطلق تحذيراتها: "هذا آخر إنذار لكم غادروا إلى جنوب القطاع"، في تلك اللحظة قصف جيش الاحتلال مربعات سكنية بشكل كبير ما أدخل سعيد وأسرته في حالة من الرعب والخوف.
لم تتوقف حالة الفزع والخوف في قلب سعيد وأسرته حتى تبعته أثناء وقوفه على الحواجز العسكرية التي أقامها جيش الاحتلال شمال قطاع غزة، يقول: "شمال قطاع غزة مفصول تمامًا من مدينة غزة، الجيش أقام حاجزًا أمنيًا من الإدارة المدنية شرقًا حتى معسكر جباليا وجباليا البلد مرورًا بالصفطاوي والعامودي والتوام حتى شاطئ البحر".
ولفت سعيد إلى أن المنطقة الفاصلة بين شمال قطاع غزة ومدينة غزة ممتلئة بجنود الاحتلال، والدبابات بالمئات، والطائرات لا تتوقف حركتها في تلك المناطق التي باتت خطيرة جدًا، وأي شخص يقترب منها يتعرض للموت مباشرة.
وصل للمجهول
وعندما وصل سعيد إلى مدينة غزة بصعوبة كبيرة قرر وأسرته الذهاب جنوب قطاع غزة لعدم قدرتهم على تحمل ما يفعله جيش الاحتلال من قتل وتدمير وتجويع وانتهاكات لكل شيء، وما إن وصلت عقارب الساعة إلى السادسة صباحًا غادر المدينة عن طريق شارع الرشيد -شارع البحر-.
بألم وحسرة ووجع ينخر جسده، يقول: “تحولت غزة إلى كومة من الرمال والركام بفعل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل لليوم الـ 412 تواليًا حيث الحياة معدومة شمال القطاع”.
ويتعرض شمال قطاع غزة لحملة إسرائيلية غير مسبوقة تنفيذًا لخطة ما تُسمى "الجنرالات" بدأت في جباليا ومعسكر جباليا وجباليا البلد واستمرت أكثر من 45 يومًا؛ وأدت لاستشهاد واعتقال المئات ونزوح عشرات الآلاف من المواطنين، وانتقلت إلى منطقة بيت حانون وبيت لاهيا.