قائمة الموقع

بالصور "على رصيفِ الحرب".. قصة مكتبة شعبية ولدت من بين الركام والدمار!

2024-12-01T11:38:00+02:00
كتب مكتبة قراءة كتاب .. الحرب على غزة.jpg
شمس نيوز - خاص

مع شروق الشمس على حي الشجاعية، يندفع صوت عجلات متهالكة في الأزقة المتصدعة، صوتٌ كأنه يحمل رسالة تمرد على الخراب، رجل أربعيني يدفع "عربة كارو" قديمة، محملة بصناديق كرتونية ثقيلة، تتمايل العربة فوق الحفر التي حفرتها صواريخ الحرب المجنونة في شوارع الحي البائس، صاحب العربة المثقف أحمد السويركي يشدُّ عربته حينًا ويدفعها أحيانًا أخرى، يُمازحها كأنها فردٌ من أسرته، بل كأنها رفيقة دربه، يهمس لها بصوتٍ يشوبه التعب "اصبري... ما نحمله اليوم ليس مجرد أوراق، إنه حياة."

مع حلول السابعة صباحًا، يصل أحمد المثقف الحالم إلى ميدان غزة "الساحة"، يتوقف قليلًا ليلتقط أنفاسه المتلاحقة، ثم يُفرِّغُ من عربته صناديق كرتونية محشوة بمئات الكتب، كأنها كنوز أُنقِذَت من بين أنقاض الحرب، يرصُّ الكتب على بسطته الشعبية بعنايةٍ فنيةٍ مدهشة، كأنَّه يعزف سيمفونية صامتة تلامس عيون المارة وقلوبهم، كل كتابٍ يضعه في مكانه يبدو كحبة لؤلؤ تُرصُّ في عقدٍ يتحدى الخراب.

إذا ما رأيت أحمد السويركي وهو يرتبُ الكتب تشعر لوهلة أنَّ ذلك بالنسبة له لم يعد عملاً بل هواية، مُتعةٌ لا مَتْعَبة، وفي كثير من الأحيان أو أغلبها تجده يسرحُ كثيراً في خياله، يغازل الكتب المتراصة وقرينتها التي ما زالت مُكوَّمة في الصناديق الكرتونية، يزيل غبارها، يرمم صفحاتها المجعدة، ويعيد الحياة إلى عناوينها المنسية، كل حركة منه تحمل في طياتها رسالة: "الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة".

 

المكتبة الشعبية: جنون أم عبقرية؟


 

في زمنٍ باتت فيه أولويات الناس محصورة في البحث عن لقمة العيش، ظهرت بسطة أحمد كحلمٍ جريءٍ يسبح ضد تيار المآسي والنكبات، كثيرون استهزأوا بالفكرة في البداية: "كتب؟! في زمن الحرب؟! من سيقرأ؟! من سيشتري؟! من سيقلب صفحاتها غير الرياح التي ستدس الغبار بين صفحاتها وتتركها وحيدة تواجه الفناء والبلاء؟!، لكن أحمد كان يرى شيئًا مختلفًا يقول "الثقافة ليست رفاهية، القراءة هي السلاح الذي نحمي به عقولنا من الخراب الذي يحيط بنا."

ومع مرور الأيام، أصبح الناس يتحلقون حول بسطته؛ تلك الفكرة التي بدت جنونية في البداية، تحولت إلى نقطة التقاء بين مثقفين، وطلبة، وشبابٍ يبحثون عن شعاع نورٍ في ظلام الحرب، لتصبح البسطة الشعبية ملاذًا ثقافيًا في قلب المأساة.

يعلقُ أحمد السويركي على سخرية ونكات عابري السبيل لدى افتتاحه مكتبته في بادئ الأمر، قائلاً: "عندما تُدمَّر الأوطان، وتمر عليها الكوارث والنكبات، تلجأ الأمم المتحضرة إلى الكتاب.. هنا يبدأ التغيير الحقيقي، لذا نحن بحاجة للقراءة الآن أكثر من أي وقت مضى"، يضيف وهو يبحث عن كتابٍ طلبه أحد زوار بسطته "الناس آمنت بالفكرة، وبهذه المكتبة، وأصبحت مزاراً شعبياً لكل المثقفين".

“الكتب ليست أوراقًا وحبرًا، إنها أحلام، أسلحة صامتة، وأرواح ترفض الموت”، هكذا يصف أحمد بضاعته الثمينة.

 

دموع على أطلال المكتبات


 

حين بدأ العدوان على غزة في السابع من اكتوبر، سمع أحمد عبر الراديو خبرًا زلزل روحه، مفاده "تدمير الطيران الإسرائيلي لـ13 مكتبة مركزية، بينها الأرشيف المركزي الذي كان يحتوي على 150 عامًا من تاريخ غزة"، انهمرت دموعه في تلك اللحظة، لكنه قرر أن تكون هذه الدموع بداية قصته لا نهايتها.

جمع أحمد الكتب من بين الأنقاض، من شوارع مزقتها القذائف، ومن أصدقاء فقدوا منازلهم، ورمم ما استطاع ترميمه، حتى مكتبته الشخصية، لم يتردد في تقاسمها مع روّاد بسطته، في نهاية المطاف استطاع جمع 2000 كتاب، لكل كتاب منها قصة نجاة، كأنها شهدت الحرب وقررت أن تحيا من جديد.

تُضيء عيون أحمد فرحًا عندما يرى الناس يشترون الكتب رغم الظروف القاسية، يتحلقون حول بسطته رغم خطورة الوضع الميداني، يقول بابتسامةٍ فخرٍ "الفكرة نجحت، الناس يقرؤون، يطالعون، شعبنا يحيا بالقراءة"، وأكثر ما يبهجه هو ملاحظته أنّ "الناس لم تعد تشتري الكتب للتسلية فقط، هناك وعيٌ جمعي جديد: القراءة هي سلاح المجتمعات ضد الجهل.. أتمنى أنْ تصبح القراءة عادة مثل أي عادة في مجتمعنا."

 

"مش مشكلة الفلوس": القراءة للجميع


 

"مش مشكلة الفلوس".. هذا هو الرد التلقائي لأحمد السويركي عندما يسأله زائري بسطته الشعبية عن أسعار الكتب، لأن الهدف من وجهة نظره يتخطاه إلى غمر الناس بالثقافة، ومدهم بشتى العلوم، وتشجيعهم على الاطلاع.

ما دفع السويركي إلى البيع بأسعارٍ رمزية، هي قصة رجل ستيني كان يجيء إلى بسطته ويقلب صفحات الكتب ويمضي ساعاتٍ يقرأ دون أن يشتري شيئًا، دفع الفضول أحمد إلى سؤاله: "لماذا لا تأخذ كتابًا لتقرأه في المنزل؟!" أجاب الرجل بابتسامة حزينة: "لا أملك المال"، تأثر أحمد، ومنذ ذلك اليوم قرر أن تكون المكتبة متاحةً للجميع، بغض النظر عن قدرتهم على الدفع.

 

التحديات: معركة لا تنتهي


 

رغم النجاح الكبير، تواجه مكتبة أحمد تحديات يومية جسيمة، منها العدوان الإسرائيلي الذي قد يُعرض بسطته للقصف في أي لحظة كونها على قارعة طريق عام، كذلك الأمطار التي قد تلحق أضرارًا بالكتب المتراصة التي يحرص على تغطيتها بشق الأنفس، لكن أكثر ما يقلق أحمد هو أن تغيب هذه المبادرة دون أن تجد من يدعمها ويطورها قائلاً: "المكتبة ليست مشروعي وحدي، إنها صوت غزة الذي يرفض الصمت."

 

نهاية اليوم: ابتسامة الحلم والحالم

 

لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام

مع مغيب الشمس، يعود أحمد، وعربته مثقلة بالكتب التي لم تُبع، لكنه يعود خفيف الروح، محملًا بابتسامات زوار المكتبة ودعواتهم، وبينما يدفع عربته عائدًا إلى بيته، يمسك بإحدى الكتب التي أنقذها ويهمس لنفسه: "تحيا الأمم بالقراءة... القراءة سر نجاتها."

بإيمانه هذا، يواصل أحمد السويركي رحلته، يروي حكاية غزة التي تقرأ، رغم العدوان الغاشم، والحرب المجنونة، ويثبت هو ومن يلتفُ حول بسطته من المثقفين والمطالعين أن الثقافة ستظل سلاح الشعوب في وجه الخراب والدمار.

 


 


 

اخبار ذات صلة