"يا الله تذكرت يوم الجمعة قبل الحرب لما كنا نقعد مع الصغار على صينية المقلوبة بعد الظهر".. بهذه الكلمات وصف خالد أبو الوليد رائحة المقالي التي تفوح من داخل خيمة جارته أم صبحي، ليصرخ عليها: "ارحمينا يا أم صبحي، رائحة المقلوبة ذكرتنا بأيام زمان، والأطفال صار نفسهم فيها"، لتفاجأه بقولها: "والله يا جار هذه مقلوبة قرديحي".
على الفور ارتسمت على وجهه علامات التعجب والاستغراب، متسائلًا: "ماذا؟ قرديحي!" أجابته أم صبحي وبيدها التي تُمسك بملعقة صغيرة تُقلب حبة البطاطس في زيت القلي؛ لتتطاير ذرات الزيت الملتهبة بمحيط موقد النار: "نعم اسمها قرديحي؛ لكنها تفقد أهم مكون، وهو اللحم الذي يمنحها الطعم اللذيذ والرائحة الشهية".
استأذن أبو الوليد من جارته بالحديث عن مكونات طبختها عله يستطيع طبخها لأطفاله الجوعى؛ لتقول: "تحتوي على كل مكونات المقلوبة الرسمية؛ لكن بدون لحمة، بسبب اختفاء هذا المكون الأساسي من الأسواق وارتفاع سعره إن وجد"، وأمضت أم صبحي تتحدث عن الأسعار: "كلفتني طبخة القرديحي نحو 50 شيكل (تقريبًا 14 دولار أمريكي) بسبب الغلاء الفاحش، فقد بلغ سعر كيلو البطاطا 30 شيكل والبندورة 40 شيكل والبصل يتراوح بين 30 و35 شيكل".
ابتسم أبو الوليد وقال مازحًا: "معك مصاري يا أم صبحي تشتري بالكيلو"، أطلقت الأخيرة تنهيدة مليئة بالحزن والألم: "والله يا جار اشتريت حبة وحدة من كل صنف، بمعنى حبة البطاطا 6 شيكل والبندورة الواحدة 7 شيكل والبصلة بـ4 شيكل، غير الرز والفستق والزبيب والبقدونس والفلفل، وهذه الطبخة بعملها فقط مرة وحدة في الأسبوع يوم الجمعة".
تعودت أم صبحي قبل اندلاع حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" منذ السابع من أكتوبر 2023 ضد المواطنين في قطاع غزة على طبخ الأرز والدجاج ولحم العجل والخروف يومين في الأسبوع، فيما أجبرتها الحرب مع ارتفاع الأسعار والنزوح على طبخ المقلوبة بدون اللحوم مرة واحدة فقط في الأسبوع لتكلفتها الجنونية.
تقول أم صبحي لـ "مراسل شمس نيوز": "نزحت من مدينة غزة وتركنا بيوتنا الجميلة وأراضينا المثمرة، ومكثنا في خيمة من النايلون لا تقي من حر الصيف أو برد الشتاء، نشعر بمعاناة كبيرة جدًا لا سيما في الطعام الي بدأ يختفي من الأسواق".
وشهدت أسواق دير البلح شح للكثير من المعلبات والمواد الأساسية وباتت مهددة بشبح المجاعة لعدم توفر الطحين، وتشير أم صبحي إلى أن أطفالها الـ (7) باتوا ليالي عدة دون خبز وانتكست صحتهم كثيرًا، وبعد سماح الاحتلال بدخول بعض الخضروات قررت فورًا شراء حبات من الخضار للأطفال على أمل أن يستعيدوا جزءًا من حالتهم الصحية".
عندما انتهت أم صبحي من طبخ المقلوبة، كعادتها وضعت صينيتين لأطفالها، وبدأ الجميع يأكل بنهم من الطعام اللذيذ؛ لكن الطفل يزن (4 أعوام) فاجأهم: "وين الدجاج؟ وين اللحم؟"، لتغرق أمه بحالة من البكاء وهي تردد: "يا الله لوين وصلنا صرنا نحلم بجزء يسير من اللحمة!".
تستذكر أم صبحي فيديو لأحد الفنانين الفلسطينيين الذي انتشر في السنوات السابقة وهو يقول: "شو يعني لحمة؟!"، لتقول: "والله أولادنا بطلوا يعرفوا شو يعني لحمة كنا نضحك على الفيديو ونشتم الفنان على الفيديو ونعتبره هبل، لكن اليوم أصبح واقعًا وحقيقة مرة لكل أطفال غزة".
تتوقف أم صبحي عن حديثها على المقلوبة ليُطل جارها أبو الوليد بصوته الفكاهي: "رائحة المقلوبة شهية يا أم صبحي، سأعملها الأسبوع القادم "مقلوبة قرديحي" بلكن وليد وأخته شام يستعيدوا صحتهم، وبعينا الله على الأسعار المرتفعة".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
يُشار إلى أن جمهور النازحين في قطاع غزة، اتفق على تسمية المقلوبة "بدون لحمة"، كاتفاقهم على الهموم والأحزان ولعنة الحرب، على اسم "قرديحي" لافتقارها على المكون الرئيسي للطبخة المشهورة عربيًا.
وتمنع قوات الاحتلال الإسرائيلي دخول اللحوم الحمراء والبيضاء إلى قطاع غزة سواء شماله وجنوبه منذ شهور عدة لتتربع المأكولات الشعبية بدون لحمة على موائد الغزيين، في محاولة لسد رمق الجوع وتحديًا لحصار جائر لا يقيم وزنًا حتى لبطون الأطفال ولا أحلامهم البريئة.