مُتَّكِئَاً على عكازٍ، يقف "وسيم نائل محمد" (13 عاماً)، في ساحة مستشفى ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، بجانب عشرات الجرحى مبتوري الأطراف، في وقفة نظمتها وزارة الصحة بغزة في اليوم العالمي لذوي الإعاقات؛ لتسليط الضوء على معاناة الجرحى ومبتوري الأطراف بفعل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، وعدوانها الذي يدخل شهره الخامس عشر توالياً، منذ السابع من أكتوبر 2023م.
على وجهه الصغير ترتسم علامات الحزن والألم، يُوزِّع نظراته يمنةً ويسرى، ثم ينزل عينيه المتعبتين مُحدِّقاً في قدمه مُحاولاً استيعاب ما حدث قبل حوالي عام واحد، حين قصف الاحتلال مدرسة "أبو حسين" بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة، وسلبته الصواريخ الحربية ساقه اليمنى منه؛ وتتركه حبيس الإعاقة.
حكاية "وسيم" المؤلمة بدأت في ساعات الصباح الباكر من يوم (14/12/2023م)، حين اهتزَّت المدرسة، التي لجأت إليها عائلات شمال القطاع، وظنَّت أنها يمكن أن تكون مكاناً آمناً لها، كأنَّ زلزالاً أصابها، واستعرت كومة لهب كبيرة كالبركان، وصمَّت أصواتُ الانفجارات الآذان، وتناثرت الشظايا في كل مكان، جراء قصف الاحتلال بصواريخه الحربية، المدرسةَ التي تُؤوي آلاف النازحين بمخيم جباليا، ثم تبعه قصف آخر تحوَّلت المدرسة على إثره إلى بركة من الدماء والأشلاء التي التصقت بالجدران، والجثث الملقاة بين الصفوف الدراسية وساحة المدرسة.. وقتها هُرِع والد "وسيم" إلى نقل طفله الذي أصيب بعدة شظايا في أنحاء متفرقة من جسده، إلى المستشفى عبر عربة تجرها دابة "كارة"، إلا أنَّ طائرات الاحتلال استهدفته بشكل مباشر؛ ليرتقي شهيداً على الفور، ويُصاب "وسيم" إصابات بالغة، أدت إلى بتر قدمه اليمنى بدون "بنج" في مركز جباليا الطبي، ولخطورة وضعه نُقِل بسيارات الإسعاف إلى مستشفى الأهلي المعمداني في حي الزيتون جنوب مدينة غزة.
مبتورَ القدم، فاقداً الوعي، وبدون حراك، وبلا نبضٍ، وصل "وسيم" إلى المستشفى المعمداني، ونظراً لتهالك المنظومة الصحية بفعل استهدافها المباشر من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وخروج عدد كبير من الأجهزة الطبية عن العمل، لم يتمكن الأطباء من إجراء عملية إنعاش له، فكفَّنوه ووضعوه في ثلاجة الموتى، بانتظار مواراته الثرى، وبينما كان أفراد عائلته يُؤدون عليه صلاة الجنازة، دوَّى صوت انفجار مرعب، أعاد النبض إلى قلبه.
يستذكر "وسيم" تفاصيل تلك اللحظات العصيبة، وكأنها حدثت اليوم أمام ناظريه، فيقول لمراسل "شمس نيوز": " "كًنتُ أسمع صوت المصلين ولكن لا أستطيع الحراك أو الكلام"، وفجأة حدث صوت قصف كبير استيقظتُ على إثره وبدأتُ بالأنين".
فوراً، أُدخل الطفل إلى غرفة العمليات، ووضع في العناية المكثفة، لأيام، قبل أن تفرض قوات الاحتلال طوقاً عسكرياً كاملاً وحصاراً مُطبقاً على المشفى، وتقتحمه على وقع قصف عنيف مرعب، وتصاعد حمم اللهب كالبراكين الفوَّارة التي تتدفق غضباً؛ واختراق شظايا الصواريخ الحربية والمدفعية وصليات الرصاص الكثيفة صدورَ مئات النازحين والمرضى الذين تساقطوا تتراً كزخات المطر.
خلال اقتحامها المشفى، أطلقَ جندي من جيش الاحتلال النار صوب قلب الطفل "وسيم"، بالرغم من إصابته بـ 5 شظايا في رأسه، وبتر بقدمه، وحرق بيده، وكسر بيده الأخرى؛ وتدفقت الدماء منه بغزارة، وأصابه الجفاف الشديد، ما اضطره، ببراءة طفولته، لطلب "شربة ماء" من جنود الاحتلال لذين بدأوا بالضحك والصراخ عليه، وشرب المياه على مرأى عينيه وبصقها عليه.
لم تتوقف قصةُ الطفل "وسيم محمد" المؤلمة عند هذا الحد، فبعد انسحاب قوات الاحتلال من المشفى المعمداني بعد أن عاثت فيه خراباً ودماراً وقتلاً واعتقالاً، أجبره جنود جيش الاحتلال على النزح مشياً على قدم واحدة ومتكئاً على شقيقته الصغيرة، إلى جنوب وادي غزة، وخلال رحلة نزوحه الشاقة أطلقوا النار صوبه، وكاد الرصاص يخترق قدمه السليمة، لكنه نجا من ذلك بأعجوبة شديدة.
وتعيش أسرة الطفل "وسيم"، في خيمة صغيرة في منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس، وتعاني ظروفاً معيشية صعبة للغاية، بسبب ظروف الحرب، تقول والدته لـ"شمس نيوز": "أوضاعنا بالغة في القسوة، نعيش في خيمة لا تقينا برد الشتاء ولا حر الصيف، لا توجد حياة هناك، الرمال الملوثة تحيطنا من جهة، والصرف الصحي من جهة ثانية، والبرد من جهة أخرى، واطفالنا محرومون من أبسط مقومات الحياة".
وتُناشد والدة الطفل "وسيم" بتركيب طرف صناعي لابنها وللأطفال مبتوري الأطراف، والنظر بعين العطف والرحمة لهم؛ ليتمكنوا من النهوض من جديد والوقوف مرة أخرى.
وأعلنت وزارة الصحة بغزة، أنّ الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزة، خلّفت أكثر من 4 آلاف حالة بتر وألفي إصابة بالعمود الفقري والدماغ وآلاف الإعاقات البصرية والسمعية بين أوساط الفلسطينيين.
وقال مدير مجمع الشفاء الطبي، محمد أبو سلمية، خلال وقفة تضامنية مع المعاقين بمناسبة يومهم العالمي: "بلغ عدد الجرحى من الذين بُترت أطرافهم السفلية والعلوية أكثر من 4 آلاف، جلّهم من الأطفال"، مضيفًا أنّ عدد من "يحتاج لإعادة تأهيل إثر إصابات في العمود الفقري والدماغ بلغ أكثر من ألفين وهم طريحو الفراش".
وأوضح أنّ "الآلاف من الفلسطينيين أصيبوا بإعاقات سمعية وبصرية" جراء القصف الإسرائيلي، مشيرًا إلى أنّ "معاقي غزة بحاجة لأدنى المستلزمات من كراس متحركة أو عكازات".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
وأشار "أبو سلمية"، إلى أن الاحتلال دمّر كامل المنظومة الصحية في قطاع غزة، حيث لا توجد أي رعاية صحية أو طبية، ومن بينها مستشفى حمد الوحيدة للتأهيل أو مركز غزة للأطراف الصناعية، مؤكداً أن الاحتلال يمنع دخول أي مستلزمات لهذه الشريحة من المعاقين، كما تمنعهم من الخروج للعلاج بالخارج.
وكان المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" فيليب لازاريني، قال في تصريحات صحفية، إن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، تسببت في "وباء إصابات فظيعة" بين الفلسطينيين مع غياب خدمات إعادة التأهيل.
وأضاف لازاريني أن "جائحة إعاقات تجتاح قطاع غزة بعد الحرب"، مشيراً إلى أن "غزة تشهد أعلى عدد من الأطفال مبتوري الأطراف للفرد الواحد في العالم، حيث يفقد العديد منهم أطرافهم ويخضعون لعمليات جراحية دون تخدير".
وأوضح أنه "قبل الحرب، كان لدى واحدة من كل خمس أسر شملها الاستطلاع شخص واحد على الأقل من ذوي الإعاقة، ووفق منظمة الصحة العالمية فإن 1 من كل 4 أشخاص أصيبوا في حرب غزة يحتاج إلى خدمات إعادة تأهيل بما فيها الرعاية بعد بتر الأطراف، وإصابات الحبل الشوكي".
وتتواصل حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لليوم الـ438 على التوالي، وسط قتل وتجويع واستهدافاتٍ مكثفة للمدنيين والنازحين والعائلات الفلسطينية في جميع محافظات القطاع.
وارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة، إلى 45 ألفاً و28 شهيدا شهداء، بالإضافة لـ و106 آلاف و962 مصاباً، منذ الـ 7 من أكتوبر 2023، وفقاً لتقرير وزارة الصحة.