كشف تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز" كيف تمكن الاحتلال من اختراق حزب الله على مدار سنوات ومراقبة قادته عن كثب. يعتمد التحقيق على مقابلات مع عشرات المسؤولين الحاليين والسابقين في الحكومات ووكالات الاستخبارات في أوروبا والولايات المتحدة والاحتلال، وكشف عن مدى التغلغل الواسع الذي قام به الاحتلال داخل الحزب.
ووفقا للتحقيق، حتى اللحظات الأخيرة في حياة الشهيد القائد حسن نصر الله، لم يعتقد أن الاحتلال سيتمكن من اغتياله. ففي نهاية سبتمبر، انتقل إلى مكان يقع على عمق 12 مترًا تحت الأرض، حيث ضغط مساعدوه عليه لاتخاذ احتياطات أكثر للحفاظ على حياته، إلا أن المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها أجهزة الاستخبارات في الاحتلال، والتي شاركتها مع حلفائها في الغرب، أظهرت أنه لم يستمع لهم.
وبحسب التحقيق، كان الشهيد نصر الله يعتقد أن الاحتلال لا يرغب في حرب شاملة، ولم يكن يعلم أن وكالات الاستخبارات في الاحتلال كانت تراقب كل تحركاته لعدة سنوات. كان ذلك نتيجة لعشرين عامًا من العمل الاستخباراتي الذي أعدته أجهزة الاحتلال تمهيدًا لحرب شاملة كان الكثيرون في الاحتلال يعلمون أنها ستأتي يومًا ما.
ويشير التحقيق إلى أن حرب لبنان الثانية في 2006 انتهت في طريق مسدود بالنسبة للاحتلال. لكن العمليات التي تم تنفيذها خلالها شكلت الأساس للهجمات التي قام بها في الحرب الأخيرة. في إحدى العمليات، بحسب معلومات قدمتها أجهزة الاستخبارات في الاحتلال للولايات المتحدة، تم زرع أجهزة تتبع على صواريخ "فجر" التابعة لحزب الله، وهو ما قدم للاحتلال معلومات عن أسلحة مخبأة داخل قواعد عسكرية سرية ومنشآت خاصة. خلال الحرب في 2006، دمر سلاح الجو التابع للاحتلال هذه المواقع.
وقال عشرة مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين لصحيفة "نيويورك تايمز" إن جهاز "الموساد" قام بتوسيع شبكة مصادره البشرية داخل حزب الله. على سبيل المثال، جند "الموساد" في لبنان أشخاصًا ساعدوا حزب الله في بناء منشآته السرية وعرفوا أماكنها. المصادر زودت "الموساد" بمعلومات عن مواقع القواعد والمرافق، وساعدت جهاز الاستخبارات العسكرية للاحتلال "أمان" في مراقبة الأنشطة داخل تلك المنشآت، وكانت كانت أجهزة الاستخبارات في الاحتلال تشارك المعلومات الاستخباراتية حول حزب الله مع الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا.
وأكد خمسة مسؤولين بارزين في وكالات استخبارات أوروبية وأمريكية أن اللحظة الفارقة جاءت في 2012، عندما تمكنت وحدة 8200 من جمع معلومات دقيقة حول مواقع قادة حزب الله، أماكن تواجدهم، وراجمات الصواريخ التابعة لهم. كانت هذه العملية نقطة تحول في تعزيز الثقة بين وكالات الاستخبارات في الاحتلال، وأظهرت أنه إذا نفذ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تهديداته بضرب منشآت إيران النووية، فإن جيش الاحتلال سيكون قادرًا على الحد من قدرة حزب الله على الرد.
في النهاية، لتوفير تفوق في الحرب المحتملة ضد حزب الله، طورت أجهزة الاستخبارات في الاحتلال أيضًا خططًا لتعطيل الحزب من الداخل، بما في ذلك تزويده بأجهزة مفخخة. كان ذلك جزءًا من عملية مشتركة بين "الموساد" و"أمان"، خاصةً وحدة 8200، باعتبار أن هذه الخطة كانت جزءًا أساسيًا من حسابات الاحتلال العسكرية قبل أي مواجهة محتملة، سواء كانت نتيجة لعملية هجومية ضد إيران أو ردًا على هجوم مفاجئ من حزب الله.
كانت تلك الأجهزة معروفة في مجتمع الاستخبارات الاحتلالية بـ"الأزرار" التي يمكن تفعيلها في الوقت الذي تختاره أجهزة الاستخبارات في الاحتلال. ولصناعة هذه الأزرار، تخصص مهندسون في الاحتلال في إدخال مواد متفجرة من نوع "PETN" داخل بطاريات الأجهزة الإلكترونية، مما حولها إلى قنابل صغيرة. الجزء الأكثر تعقيدًا في العملية كان من تنفيذ "الموساد"، الذي خدع حزب الله لشراء معدات عسكرية وأجهزة اتصالات من شركات لا تبدو أنها تابعة للاحتلال.
في 2014، استفادت أجهزة الاستخبارات في الاحتلال من فرصة عندما توقفت الشركة اليابانية "iCOM" عن إنتاج أجهزة الاتصال IC-V82، التي كانت تحظى بشعبية واسعة بين عناصر حزب الله. اكتشفت وحدة 8200 أن حزب الله كان يبحث عن هذه الأجهزة لتجهيز قواته الأمامية، وأعدوا سترة خاصة لهم تحتوي على جيب يتناسب مع الجهاز. بدأت أجهزة الاستخبارات لدى الاحتلال في تصنيع نسخ معدلة من أجهزة IC-V82 مع إدخال مواد متفجرة في بطارياتها. وصلت هذه الأجهزة إلى لبنان في 2015، وتم إرسال أكثر من 15,000 جهاز في النهاية. في 2018، وضعت أجهزة الاستخبارات في الاحتلال خطة لاستخدام نفس التقنية لزرع المتفجرات في بطاريات أجهزة "البيجر"، إلا أن استخدام حزب الله لهذه الأجهزة لم يكن واسع النطاق، لذا تم إلغاء الخطة.
ومع مرور السنوات، أصبحت قدرة أجهزة الاستخبارات في الاحتلال على اختراق الهواتف المحمولة أفضل بكثير، ما جعل حزب الله وإيران أكثر حذرًا في استخدام الهواتف الذكية. نتيجة لذلك، بدأ حزب الله في زيادة استخدام أجهزة "البيجر" التي لم تكشف عن موقعها الجغرافي ولا تحتوي على كاميرات وميكروفونات يمكن اختراقها. بعد ذلك، بدأ "الموساد" في بناء شبكة من الشركات الوهمية لبيع هذه الأجهزة لحزب الله.
وفي مارس 2023، تم تقديم جهاز "البيجر" المعدل لرئيس حكومة الاحتلال في اجتماع مع رئيس "الموساد"، الذي أجرى اختبارًا للجهاز عبر إلقائه على جدار مكتب رئيس الحكومة. في أكتوبر 2023، عندما اندلعت الحرب، قرر كبار المسؤولين في الاحتلال تفعيل العملية ضد حزب الله عبر تشغيل الأجهزة المفخخة. في 16 سبتمبر 2024، تم إرسال رسالة مشفرة إلى آلاف من أجهزة "البيجر"، وانفجرت في الحال.
وعلى مدار العام، أجرت أجهزة الاستخبارات في الاحتلال حوالي 40 "خدعة حرب" حول اغتيال نصر الله وقادة آخرين في حزب الله. في نهاية سبتمبر 2024، قررت أجهزة الاستخبارات في الاحتلال اغتيال نصر الله، مع تقارير جديدة تفيد بأنه كان يخطط للانتقال إلى مكان جديد أكثر أمانًا. بعد مناقشة مع كبار المستشارين العسكريين والاستخباراتيين، تقرر تنفيذ العملية دون إبلاغ الولايات المتحدة مسبقًا، رغم التحفظات بشأن رد الفعل الأمريكي.