بمجرد الإعلان عن “اتفاق وقف إطلاق النار” بصيغته الأخيرة بدأ الإرباك الصهيوني الداخلي يطفو على المشهد الإعلامي، وتعزز ذلك باتهامات قادة العدو على وسائل الإعلام الصهيونية بالفشل والإخفاق الكبير بعد أن دخل الاتفاق حيز التنفيذ، وظهر في غزة مشهد العزة والفخر الذي صدم الأعداء وفاجأ الجميع. ما أثبت أنّ العدو الصهيوني عجز وفشل في تحقيق أبرز أهدافه المعلنة من حرب الإبادة الجماعية على غزة، وهي استعادة أسراه بالقوة العسكرية، ما اضطره للخضوع إلى أبرز مطالب المقاومة الفلسطينية، والتفاوض غير المباشر حول وقف العدوان الهمجي على غزة وإجراء صفقة التبادل.
فعلى الرغم من حجم الإجرام الصهيوني، والتدمير الهائل، والأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى، إلا أنّ الشعب الفلسطيني ظل صامداً في غزة، ولم تُكسر إرادته رغم الحصار الخانق والمعاناة الشديدة، واستطاع أن يثبت أنّه شعب مقاوم بامتياز، وأنّه شعب عظيم فريد في هذا العالم، بقدرته على تحمل الضغوط غير المسبوقة، وأنّه شعب متفوق بصلابة إرادته وعزيمته، وقدّم نموذجاً لم يسبق له مثيل في الإرادة الصلبة والإيمان الراسخ والصبر الجميل… ما أوصلنا إلى هذا الإنجاز المهم للمقاومة بمختلف مكوناتها، وللشعب الفلسطيني الصابر المحتسب.
وبناء عليه، فإنّ نتيجة معركة طوفان الأقصى وإنجازات المقاومة المهمة والإستراتيجية فيها، أظهرت بلا ريب انتصار المقاومة وهزيمة العدو، وذلك استناداً إلى الوقائع والمشاهد الآتية:
أ- بعد سريان وقف إطلاق النار
أولا: على الجانب الفلسطيني:
1- مباشرة انتشار القوى الأمنية لضبط الوضع في غزة.
2- مباشرة إدارة البلديات عملها في غزة.
3- مظاهر استعراض قوة المقاومة العسكرية في غزة.
4- مشهد التفاف الجماهير المحتشدة حول المقاتلين الفلسطينيين في غزة.
5- مشهد تسليم مقاتلي كتائب القسام الأسيرات الثلاث للصليب الأحمر.
6- مشهد الحشود الغفيرة من جماهير شعبنا الفلسطيني في غزة، وتصريحاتها المتداولة على وسائل الإعلام التي عبّرت عن فرحتها رغم غصة الألم.
ثانيا: على الجانب الصهيوني:
1- آثار الصدمة والإرباك الداخلي الظاهر على وسائل الإعلام الصهيونية، والتجاذب وتقاذف الاتهامات.
2- تحدي نتنياهو أن يخرج عبر الإعلام ويعلن الانتصار على المقاومة في غزة.
3- استقالة وزراء من حكومة الحرب الصهيونية، وعدد من قادة جيش العدو الصهيوني.
4- الإجراءات الصهيونية المشددة لمنع مظاهر الفرح في الضفة الغربية والقدس باستقبال الأسرى الفلسطينيين المحررين ضمن صفقة التبادل.
ب- قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار
أولا: على الجانب الفلسطيني:
1- تخطيط المقاومة الإستراتيجي المحكم والدقيق، ومباغتة العدو بتنفيذها هجوماً نوعيّاً تجاوز توقعاته، ما أظهر استعداداً عسكريّاً متقدماً لها من جهة، ونجاحاً في خلق حالة من الفوضى والتخبط والإرباك داخل الكيان الصهيوني من جهة ثانية.
2- تمكن المقاومة، لأول مرة منذ احتلال فلسطين، من الوصول إلى مناطق حساسة، في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء عبر الصواريخ أم العمليات البرية، وأسر عدد كبير من الجنود والضباط والصهاينة، ما شكل ضربة قاسية للمنظومتين الأمنية والعسكرية الصهيونية، وهشّم هيبة جيش العدو وحكومته.
3- استبسال المقاتلين الفلسطينيين، وتوجيه ضربات مؤلمة للعدو، وتنفيذ عمليات بطولية من مسافة صفر.
4- نجاح المقاومة في التصدي للعدو الصهيوني، واستنزاف جيشه، وتسطير ملحمة بطولية لم يسبق لها مثيل.
5- التنسيق غير المسبوق بين الفصائل الفلسطينية المقاومة على المستوى العسكري في غزة، وعلى المستوى السياسي خارج غزة.
6- الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، وتحمله ما لا يستطيع أحد تحمله، من ضغوط ومعاناة، في ظل حرب الإبادة الجماعية والتجويع والحصار.
7- التعاضد والتكافل الإنساني الملحوظ بين أبناء شعبنا في غزة.
8- النجاح في المعركة الإعلامية بإعادة الاعتبار للمقاومة الفلسطينية، ودحض مزاعم العدو وأكاذيبه، بعدما حاول الإعلام المعادي تشويه صورتها من جهة، وتسليط الضوء على المجازر والجرائم الصهيونية الوحشية من جهة ثانية.
ثانيا: على الجانب الصهيوني:
1- عجز المنظومة الأمنية الصهيونية التي كانت تُعتبر من الأقوى في العالم عن توقع الهجوم في 7/10/2023، أو رصد التحضيرات له، ما فضح ضعفها وأدى إلى انهيارها.
2- انتشار مشاهد الهروب الجماعي للصهاينة من مناطق مختلفة في كيان الاحتلال، ما عكس حالة الذعر التي أصابتهم، وعدم الثقة بقدرة جيشهم على حمايتهم.
3- صعوبة استعادة سيطرة العدو على المناطق التي اقتحمتها المقاومة، واستغراقه وقتاً أطول من المتوقع، مع ما رافق ذلك من قتله أعداداً كبيرة من الصهاينة بالقصف المتعمد لئلا يتمّ أسرهم من قبل المقاومين، أو غير المتعمد بسبب حالة الإرباك والفوضى التي أصابته.
4- تكبد جيش العدو خسائر بشرية ومادية فادحة في جنوده وآلياته.
5- فشل العدو في تحقيق أهدافه المعلنة رغم القتل الوحشي والتدمير الهائل.
6- عجز العدو عن كسر إرادة الصمود لدى الشعب الفلسطيني وإرغامه على الاستسلام، خلال أكثر من سنة وثلاثة أشهر من الحرب الهمجية والحصار المطبق.
7- تصدع جبهة العدو الداخلية، وظهور خلافات واسعة داخل قيادته السياسية والعسكرية، وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن الإخفاق الأمني والعسكري، وتزايد الانقسامات الحادة، وتصاعد وتيرة الانتقادات للحكومة الصهيونية بسبب ضعفها الواضح في مواجهة المقاومة، رغم الدعم المادي والعسكري المطلق من دول كبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
8- شلل في الاقتصاد الصهيوني والحركة التجارية، بسبب طول الحرب من جهة، وسقوط صواريخ المقاومة في عمق كيان الاحتلال من جهة ثانية، ما أدى إلى أضرار اقتصادية بالغة، وتعطيل الحياة اليومية، وخسائر فادحة في البنية التحتية.
9- تصاعد الأزمات السياسية الصهيونية الداخلية، لعدم قدرة قادة العدو على تقديم حلول سياسية أو عسكرية تنهي الحرب لمصلحتهم.
10- تزايد الضغوط على قادة العدو والانتقادات الموجهة لقادة جيشه، بسبب تهجير الصهاينة من المناطق المحيطة بقطاع غزة، منذ عملية طوفان الأقصى في 7/10/2023، حتى يومنا هذا، إضافة إلى تهجير الصهاينة من شمال فلسطين المحتلة، بسبب فتح جبهة الإسناد من جنوب لبنان. ناهيك عن حالات الخوف والهلع التي أصابت عدداً كبيراً من الصهاينة، أثناء هروبهم إلى الملاجئ، أو تواجدهم في أماكن قريبة من سقوط صواريخ المقاومة.
11- زيادة أعداد المهاجرين الصهاينة من فلسطين المحتلة إلى دول مختلفة في العالم، خلال معركة طوفان الأقصى.
12- تصاعد الضغوط الدولية والشعبية والإعلامية، والانتقادات العالمية ضد الجرائم والمجازر الوحشية التي ارتكبها جيش الاحتلال بحقّ الأطفال والنساء والمدنيين في غزة، ما وضعه في موقف صعب ومحرج على الصعيد الدولي، ولا سيما بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحقّ نتنياهو وغالانت.
13- رضوخ العدو مرغماً لمطلب المقاومة منذ اليوم الأول للعدوان، وهو وقف إطلاق النار والتفاوض غير المباشر حول عملية تبادل الأسرى.
وقد عبّر مشهد التفاف أهل غزة حول رجال المقاومة عقب دخول الهدنة حيز التنفيذ يعكس صورة العزة والكرامة لديهم، ويعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني وإصراره على التمسك بنهج المقاومة بكل أشكالها، وعلى رأسها المقاومة المسلحة، خياراً وحيداً لتحرير القدس وفلسطين كلها من الاحتلال الصهيوني.
ربما لم يكن من خطّط لهذه العملية البطولية الكبرى يعلم أو يدرك حجم الرد الصهيوني الوحشي والهمجي على غزة، ولا يريد ذلك حتما. ولكنّه أيضاً لم يكن يهدف إلى توريط محور المقاومة، وليس من المنطق أن يورّط نفسه، فهو جزء لا يتجزأ منه، وهو المتضرر الأكبر من هذه الحرب كذلك
إنّ عملية طوفان الأقصى محطة تاريخية مهمة من محطات المقاومة، ومهما كان الثمن باهظاً لا ينبغي لنا الرضوخ لخيار الاستسلام، والتنازل عن الحقوق والأرض والمقدسات في فلسطين. ربما لم يكن من خطّط لهذه العملية البطولية الكبرى يعلم أو يدرك حجم الرد الصهيوني الوحشي والهمجي على غزة، ولا يريد ذلك حتما. ولكنّه أيضاً لم يكن يهدف إلى توريط محور المقاومة، وليس من المنطق أن يورّط نفسه، فهو جزء لا يتجزأ منه، وهو المتضرر الأكبر من هذه الحرب كذلك.
ومن الطبيعي جدّاً أن تنفّذ المقاومة عمليات عسكرية ضد جيش الاحتلال، وتبذل قصارى جهدها لتحرير أرضها واستعادة أسراها. وإن قصّرت في ذلك يلومها شعبها، ويفوتها قطار التحرير. لذلك أية عملية ينفّذها أبطال المقاومة مهما أدت إلى خسائر في صفوف العدو، لا يبرر له ارتكاب المجازر الوحشية بحقّ الأطفال والنساء والمدنيين، وتدمير معظم المباني السكنية والمشافي والمدارس ومراكز الإيواء ودور العبادة والبنى التحتية…
أما جبهات الإسناد فقد أدّت دوراً بالغ الأهمية في دعم صمود غزة، والوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار؛ بدءاً من المقاومة الإسلامية والوطنية في لبنان، مروراً بفصائل المقاومة العراقية، وصولاً إلى اليمن الشجاع، دون أن ننسى دور إيران إن كان على المستوى الدبلوماسي البارز، أم على مستوى تقديم الدعم الكبير بمختلف أشكاله للمقاومة الفلسطينية، ناهيك عن توجيه ضربات عسكرية لكيان الاحتلال.
وقد بذلت القيادات السياسية والإعلامية والعسكرية والأمنية الحليفة جهوداً كبيرة ومميزة، فهي كانت حاضرة دوما، سواء في وضع الخطط والإستراتيجيات، أم في ميادين القتال والمواقع المتقدمة، أم على وسائل الإعلام المختلفة، أم في المحافل الدولية… وقدمت تضحيات جسيمة على طريق القدس وفلسطين، وخسائر لا تعوّض في الأرواح والممتلكات؛ فاستشهد قادة عظام، ومقاومون بواسل، وعسكريون وإعلاميون ومسعفون، وأطفال ونساء ومدنيون، واستهدفت بالقصف والتدمير منشآت مدنية ومبانٍ سكنية ودور للعبادة، ومواقع قيادية وعسكرية…
لقد قدّمت، مشكورة، جبهات الإسناد في لبنان والعراق واليمن لمساندة القضية الفلسطينية كل ما باستطاعتها تقديمه، وأثبتت للجميع أنّ بوصلتها نحو القدس، وأنّها حليفة صادقة للمقاومة في فلسطين مهما كلّفها الأمر، وأنّها شريكة بكل ما تعنيه الكلمة مع المقاومة الفلسطينية في معركتها ضد الأعداء، وشريكة في الدم والشهادة، وفي الإنجاز والانتصار…
إنّ طبيعة المقاومة التجدد، والضربات التي تتلقاها من الأعداء لا تكسرها ولا تقضي عليها، بل تقوّيها وتشكّل رافعة لها، وتزيدها خبرة وتجربة، وتساعدها على التطور وعلى تطوير قدراتها. والتجارب تثبت ذلك، فكم من حركة أو حزب استشهد أمينه العام أو قادته الكبار، ولم يُكسر أو يُهزم، بل ازدادت قوة وقدرة، ببركة دماء شهدائه، وبإصرار أبنائه على متابعة الطريق ومواصلة الدرب والتمسك بالنهج…
وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ المنتصر في الحرب هو صاحب اليد العليا، وأنّ اليد السفلى للمهزوم، فإنّ نتيجة معركة طوفان الأقصى حتى الآن تظهر أنّ المقاومة في غزة هي المنتصرة، وأنّ العدو الصهيوني قد مُني بالفشل والهزيمة.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ من يقرر مستقبل غزة هو المنتصر، وهذا ما بدا جليّاً في المشهد الذي رآه العالم في غزة، منذ اللحظات الأولى لدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.