صرخت المسنة أم محمد ملحم على زوجها وأبنائها بصوت يملأه الخوف والحزن، "الحقوا عزمي ماسك عظمة!"، لم تُنهِ صرختها المدوية حتى وصل زوجها طارق بسرعة إلى حفيده وأمسك العظمة من يده؛ ليضعها برفق داخل حفرة خصصها طارق على باب خيمته؛ ليختلط ترابها بما تبقى من عظام الموتى والشهداء من مقبرة ابن مروان بحي الشجاعية شرق مدينة غزة.
ولجأ الزوجان ملحم للعيش فوق قبور الموتى والشهداءـ بعدما تقطعت بهم سبل الحياة الكريمة إذ دمر الاحتلال الإسرائيلي شفتهم بالكامل خلال حرب الإبادة الجماعية، ولم يجد الزوجين خيمة تأويهم داخل مراكز الإيواء القريبة أو البعيدة عن سكنهم الأصلي بسبب اكتظاظ النازحين.
بقلوب يعتصرها الألم، روى الزوجان حكايتهم المؤلمة لمراسل "شمس نيوز" أثناء جلوسهم فوق قبور الموتى، فقد وضع طارق حصيرة وبعض البطانيات على الأرض يقول: "عندما قررت مع زوجتي العيش بين الأموات قمت بإزالة الجثث وما تبقى من رفات الموتى على مساحة نحو (6 أمتار عرضًا و9 أمتار طولًا) وتركت حفرة صغيرة لأحد القبور في وسط الخيمة لأضاع بداخله ما أجده في طريقي من رفات للموتى".
يستعيد طارق شريط ذكرياته قبل اتخاذ قرار العيش فوق القبور، حيث كان يتساءل، هل يمكن لعاقل أن يعيش فوق الموتى؟، كيف سيكون شعورنا ونحن ننام فوق رفات الموتى والشهداء؟ هل ستصيبنا أمراض بسبب العيش في القبور؟ أو تصيبنا لعنات الموتى؟ أسئلة كثيرة كانت تدور في رأس طارق الذي لم يجد أجوبة مقنعة أمام الظروف المؤلمة والقاسية، قائلًا: "الأرض لم تتسع لنا كـ"نازحين"، ولا نملك قوت يومنا لنبني مستقبلًا زاهرًا".
ويخشى طارق الهجرة خارج قطاع غزة، إذ أشار إلى أن قرار العيش فوق القبور أهون عليه من ترك بلاده وأرضه -ردًا على مخطط ترامب ونتنياهو لتهجير سكان قطاع غزة- مستذكرًا أيام التهجير القسري لعائلته من الداخل المحتل (عام 1948)، حينها عاش طارق سنوات عدة في اليمن قبل أن يعود لأرض الوطن مع الرئيس الشهيد ياسر عرفات (عام 1994).
خلال السنوات الماضية عاش طارق في شقة سكنية في حي النصر غرب مدينة غزة، مع أسرته المكونة من (7 أفراد) وفجأة مع بزوغ فجر (السابع من أكتوبر 2023) واشتداد حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل ضد شعبنا لم يكن امام طارق سوى النزوح إلى الجنوب كمئات الآلاف من أبناء شعبنا.
يقول طارق: "كانت حياتنا صعبة جدًا قصف وفقر وجوع واذلال وامتهان للكرامة، حاولنا التأقلم دون جدوى، وأصبحنا ننتظر وقف إطلاق النار من أجل العودة إلى منازلنا في مدينة غزة رغم ما أصابها من دمار، وبعد العودة للشمال تفاجأت بتدمير الشقة بالكامل".
اتجه طارق وأسرته لاستئجار شقة سكينة مجاورة لشقته في حي النصر، فكان سعرها مرتفع جدًا، موضحًا أن سعر الايجار أكثر من (2000 شيكل شهريًا) يقول: "أنا معيش أكل كيف بدي أحصل هذا المبلغ في الشهر، وأمام صعوبة الحياة وقلة توفر الأموال أصبحت أعيش في الشارع، وهذا أحد الأسباب التي دفعتني للعيش فوق قبور الموتى".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
أول الأيام مرعبة
عندما عثرت على مقبرة ابن مروان في الشجاعية فورًا بدأت بإزالة القبور وما فيها من رفات عبارة عن "عظام – جماجم – أصابع- أقدام" ونصب طارق أوتاد خيمته، إذ يٌشير إلى أن أول ليلة له فوق القبور كانت من أصعب الليالي التي عاشها.
ولم ينم طارق في الليلة الأولى مطلقًا إذ كان خائفًا من الزواحف والثعابين والكلاب الضالة، مبينًا أنه قتل عددًا كبيرًا من الثعابين والحشرات السامة، وعلى مدار أيام من عمليات اختفت تلك الزواحف.
وواجه طارق صعوبات عدة لإقناع زوجته بالعيش في هذا المكان، ولم تجد الزوجة سوى القبول مجبرة بسبب الظروف المأساوية وعدم توفر خيمة تأويهم داخل مراكز الإيواء تقول زوجة طارق لمراسلنا: "كنت ارتجف من شدة الخوف في أول أيامنا للنوم فوق رفات الموتى",
أكثر ما يرعب أم محمد في حياتها بين القبور هم أطفال بناتها وأبنائها تقول: "كنت جالسة أشرب كأسًا من الشاي قبل مشاهدة ابن بنتي عزمي نصار وهو يُمسك بيده عظمة ويجري فيها هنا وهناك، كنت أرتجف من تكرر هذا المشهد أو يضعها في فمه ما يسبب له الأمراض الخطيرة التي نعلمها والتي لا نعلمها".
وتستنجد عائلة ملحم بالجهات المختصة والمؤسسات المحلية والدولية بضرورة توفير كرفان لهم يأويهم من برد الشتاء وحر الصيف.