تقرير: أوريون XXI الفرنسية - فرات العاني
الأزيز بعيد ولكنّه مسموع ومن سقف منزله، يراقب طارق شحيبر البالغ من العمر 45 عامًا السماء مؤكّدًا: “طائرة بدون طيّار تحلّق فوقنا” ويستخدم أهل غزّة مصطلح “الزنّانة” للإشارة إلى هذه الطائرات –نسبة إلى “الزّن”، الطنين باللهجة الفلسطينية-. ويضيف الأبّ: “الضجيج ثابت، يدخل رؤوسنا ولا يغاردنا أبدًا” ويخلق إذن شعورًا بالعجز لأنّ “الزنّانة” قد تضرب في أيّ لحظة ويخبر شحيبر جيّدًا تكلفته فقد خبّأ في كيس بلاستيكي في الخزانة المعدنية، قطع صغيرة من الصواريخ، يضعها حول الثقب الناتج عن ضربة صاروخ ويروي ما حدث.
حدث هذا ذات مساء في أغسطس 2014، كان الجوّ حارًّا كما العادة عندما كان الأطفال يلعبون على الشرفة. ونحو الساعة التاسعة مساءً سمع الأب انفجارًا قويًّا ليصحو مفزوعًا وقد تحوّل أسوأ كوابيسه إلى واقع مرير: “عندما وصلت إلى السطح، وجدت ثلاثة أطفال ملقين على الأرض، ابنا أخي التوأم وأختهما البالغين من العمر 8 و9 سنوات على التوالي. حملتهم، كانوا يتنفّسون ولكن ما إن نزلت إلى المنزل حتّى ذعرت“: لقد مات الثلاثة.
أخرج من جيبه صورتين: في الصورة الأولى، يظهر الأطفال بالزيّ المدرسي الموحّد وعلى الصورة الثالثة، كانوا في مشرحة مستشفى غزّة: “هل كان هؤلاء الأطفال أعضاء في حماس؟ لقد كانوا أبرياء، أطفالا أعمارهم بين الثامنة والتاسعة، أودّ أن أعرف لماذا استهدفوا، أريد أن يفسّر لنا الجيش الإسرائيلي لماذا وكيف أرسل طائرة بدون طيّار على سقفنا“. أمّا والد الأطفال وأمهم فلا يزالون في حالة صدمة ولم يرغبوا في الإدلاء بشهادتيهما.
“أخطاء” عاديّة
يشبه هذا الخطأ الكثير من الأخطاء الّتي تحدث في غزّة، فالطائرات بدون طيّار تقتل ولكن الحياة تصبح جحيمًا لا يطاق بالنسبة للناجين من الموت خاصّة في المناطق المجاورة لـ “إسرائيل” مثل بيت حانون، يبدو هذا الحيّ كما لو تعرّض لتوّه إلى زلزال مدمّر وعلى الطريق، استقبلتنا أمّ محمود في أحد المنازل القليلة الصامدة واهتزّت عند طرح موضوع الطائرات بدون طيّار: “نعيش في ضغط مستمرّ، لقد بات هذا الأزيز إيقاعًا لحياتنا فعند سماعه لا نخرج لإداركنا أنّ الزنّانة ستضرب منزلًا أو سيّارة أو شارعًا من شوارع الحيّ وأحيانا بمجرّد ابتعاد الأزيز نخرج لقضاء حوائجنا، في محاولة للعيش. نسمع كل يوم هذا الضجيج في غزّة ليخبرنا كيف سيكون اليوم“. وترغب هذه السيّدة –الأمّ لـ 5 أطفال والمولودة في بيت حانون– في مغادرة حيّها.
شارك الجار ياسين عودة في هذه المحادثة وأعلمنا أنّ صوت الطائرات بدون طيّار ليس وسيلة الترهيب الوحيدة وقد قال رافعًا يده إلى السماء “نحن نعيش تحت المراقبة على مدار اليوم فهذه الطائرات تراقب جميع تحرّكاتنا وأعمالنا وتتنصّت على هواتفنا وتشاهد ما نشتري وتتابع تحرّكاتنا بالسيارات. عندما أخرج أكون تحت ضغط دائم وأبقى حذرًا لما أقوله في الهاتف لأنّ كلمة بسيطة كـ “حماس” على سبيل المثال قد تكلّفني حياتي” كما اعترف بأنّه يزور أخصائيًا نفسيًّا بصورة منتظمة.
يتزايد عدد الفلسطينيين الّذين يتناول الـ فاليوم –المسكّن القويّ– لينسون الطائرات بدون طيّار ومن بينهم ياسين عودة: “لقد أصابتنا حالة من الوسواس ففي حي قتل 16 شخصًا بالزنّانة، ونعيش بالتالي في خوف وأطفالنا يفزعون من أيّ صوت بسيط ويرون كوابيس في منامتهم“. وعند سؤاله عمّ يجعله متأكدًا من أن الطائرات بدون طيّار هي الّتي تقتل ردّ عودة بثقة: “لقد اعتدنا على الحرب، عندما نعيش في غزّة، نعرف كلّ صوت متعلّق بالحرب. عندما ينفجر صاروخ ندرك إن كان مصدره طائرة هيلكوبتر أو طائرة آف 16 أو زنّانة. لكل واحدة من الطائرات الثلاث صوت مختلف: الهيلكوبتر يعرفها حتّى الطفل ابن الثانية أما الـ آف 16 فصوتها يشبه صوت الرعد والزنّانة تطنّ“.
يعتبر الكاتب والمتخّصص في الطائرات بدون طيّار الإسرائيلية، عاطف أبو سيف أنّ “الزنّانة أصبحت المحتلّ الجديد لقطاع غزّة فالجيش الإسرائيلي غير موجود جسدياً ولكنّه يحتل السماء ويسيطر على السكّان بوجوده فيها. ويشعر سكّان غزّة بالمراقبة ولهذا تأثير سلبي للغاية على معنويّاتهم فالوضع لا يمكن تحمّله“. ويذكر أنّ هذا الكاتب قد أجرى دراسة على أثر هذه الأسلحة القاتلة على حياة أهل غزّة.
في تلّ أبيب، قبل مشغّل طائرة بدون طيّار اللقاء بنا، شريطة عدم ذكر اسمه. انتظرنا في قاعدة بلماخيم في ضواحي تلّ أبيب برفقة جهاز الإعلام التابع للجيش الإسرائيلي وعند سؤاله عن استهداف المدنيين بالطائرات بدون طيّار، أنكر هذا الاتّهام على الرغم من إقراره في تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.
وردّد المسؤول الإسرائيلي: “تقتصر مهمّتنا على طرد الإرهابيين عندما يكونوا على وشك إطلاق صواريخ ومن ثمّ نرسل معلومات إلى رؤسائنا مع الحرص على حماية المدنيين“. وعند سؤاله عن عمليات الاغتيال الّتي تستهدف أعضاء حماس والأضرار الجانبية الممكنة، تجمّد وجهه ثمّ قال ناظرًا إلى أحد أعضاء جهاز الإعلام: “لا يمكنني الحديث في هذا الأمر. كل ما يسعني قوله أنّ عدم التواجد على الجبهة مفيد. نحن جالسون الآن بشكل مريح في مكاتبنا وبالتالي لدينا الوقت والصفاء الضروريين للتمييز بين المدنيين والإرهابيين“. بات من المستحيل بعد ذلك الحصول على مزيد من المعلومات باعتبار أنّ جهاز الإعلام التابع للجيش قد قطع المقابلة.
حرب الـ سي أي آي السريّة في باكستان
على بعد الآلاف من الكيلومترات من الشرق الأوسط، يحمل رفيق رحمان برفقة ابنته نبيلة الصورة الوحيدة الّتي بقيت له من أمّه في بيشاور. والرجل وعائلته من أصول وزيرزستان في المناطق القبلية الّتي تفصل بين باكستان وأفغانستان، كان في الماضي يستمتع بإحصاء عدد الطائرات بدون طيّار المحلّقة في الأجواء إذ يقول: “لم أعرها آنذاك أي اهتمام لأنّهم قالوا لنا أنّ هذه الطائرات لا تستهدف إلّا طالبان” ولكن تغيّر الأمر عندما استهدفت عائلته.
قبل يوم من بداية شهر رمضان كانت نبيلة رحمان البالغة من عمر 12 عامًا تقطف الخضار بصحبة جدّتها وتستحضر هذا اليوم قائلة: “كنت على الجانب الآخر من الحقل على بعد عشرات الأمتار من جدّتي عندما سمعت صوت انفجارين ورأيت الدخان يرتفع في كلّ مكان وشممت رائحة حريق“. ثمّ خيّم الصمت على المكان لبرهة قبل أن يأتي سكّان القرية ليجدوا شظايا صاروخ وقطع من الجسد إذ توفّيت جدّة نبيلة على الفور. أمّا نبيلة فقد خرجت من هذه الحادثة بذراع مكسورة وعدّة خدوش. علم رفيق رحمان بالخبر بعد بضعة ساعات: “عندما عدت إلى البيت، كان جميع سكّان القرية أمام الباب وعند مدخل منزلي، رأيت صندوقًا خشبيًا ملقى على الأرض لم يحمل إلّا قطع من الجسد ولا أتمكّن من التعرّف على والدتي“. وهذا الخطأ الفظيع ليس فريدًا في المنطقة وعلى عكس قطاع غزّة، هناك إحصائيات وبيانات متعلّقة بعدد قتلى الطائرات بدون طيّار من المدنيين، وحسب دراسة صادرة عن مكتب الصحافة الاستقصائية، هناك 962 قتيلًا مدنيًا من بينهم 207 أطفال من أصل 3962 ضحية للطائرات بدون طيّار أي أنّ قصف زنّانة من أصل 4 في باكستان يكون ضحاياه من المدنيين.
كما هو الحال في غزّة، من ينجو من الطائرات بدون طيّار لا يعيش كما كانت حياته من قبل إذ يروي رحمان: “تغيّرت الحياة في وزيرستان بعد قدوم الطائرات بدون طيّار، لم نعد نجتمع ولا ننظّم لا مباريات كرة قدم ولا جنازات ولا أعراس خوفًا من أن يتمّ اعتبارنا إرهابيين وتقصفنا الطائرة بدون طيّار. ما عاد الأطفال يلعبون في الخارج فالحياة قد توقّفت خارج المنازل والتضامن بين الناس قد تدهور والكلّ يخاف من الكلّ لأنّ المخبرين في كلّ مكان“. وفي قريته، زادت تدريجيًا شكوك طالبان الذين يؤكّدون وجود مخبرين يضعون شرائح إلكترونية في منازل الأشخاص المشتبه في انتمائهم إلى الحركة وفي سيارتهم: “يخشى كل شخص الخروج ليس فقط بسبب الطائرات بدون طيّار بل بسبب طالبان الّذين يوقفون الناس بشكل منتظم ويقتلونهم ليكونوا مثالًا يحتذى به“وتمّ استهداف الكثير من سكان وزيرستان.
ويغضب هذا الأب من الولايات المتّحدة الأمريكية وأيضًا من الحكومة الباكستانية الّتي يعتبرها متواطئة في قضية الطائرات بدون طيّار القاتلة فقرّر رفيق رحمان إعلامها بذلك، إذ تواصل بعد بضعة أسابيع من القصف مع المحامي الباكستاني شاهزاد أكبر المتواجد في إسلام آباد وهو الوحيد المدافع عن ضحايا هذه الطائرات. وبفضله، انتقل رفيق رحمان وأبنائه الثلاثة إلى الولايات المتّحدة لتقديم شهادتهم أمام الكونغرس، مرّروا رسالتهم ولكن الطائرات بدون طيّار لا تزال تحلّق في المنطقة وتعود آخر غاراتها إلى يوم 18 مايو 2015.
يفخر أكبر في إسلام آباد بأنّه تسبّب في ترحيل رئيس وكالة المخابرات المركزية الـ سي أي آي من باكستان: “لقد قمنا بالعديد من الأبحاث واكتشفنا اسمه وعندما تقدّمنا بالقضية أمام محكمة إسلام آباد، اضطرّ رئيس الـ سي أي آي إلى مغادرة البلاد، وأردنا أيضًا محاكمة صانعي الصواريخ والطائرات بدون طيّار“. وينشر في مكتبه بفخر حطام الصواريخ الّتي جمعت في وزيرستان من ذوي ضحايا الطائرات بدون طيّار ليستخدمها كأدلّة ولتحلّل ليعرف مصدرها.
لا يخاف المحامي الّذي تلقّى تعليمه في لندن من مواجهة واحد من أقوى أجهزة المخابرات في العالم بهدف “أن يتمّ تعويض الضحايا ولتعترف الـ سي أي آي بأخطائها وتتوقّف عن حربها غير المشروعة في باكستان” على حدّ تعبير شاهزاد أكبر، ولكنّ العقبات كثيرة ففي السنوات الأخيرة رفضت جميع طلباته للحصول على تأشيرة للولايات المتّحدة ويسخر من هذا قائلاً: “من قبيل الصدفة البحتة“.
خلال خطاب عن جهاز الدفاع في البيت الأبيض في عام 2012 اعترف باراك أوباما للمرّة الأولى بتسبّب الطائرات بدون طيّار في مقتل مدنيين وقال أنّ هؤلاء القتلى سيطاردونه حتّى نهاية أيّامه، ومع ذلك لم يحن الوقت بعد لتعويضهم والاعتراف رسميًّا بهذه الهجمات. أمّا في “إسرائيل” فلا توجد أي بيانات متاحة عن استخدام الطائرات بدون طيّار في غزّة ولا يزال عدد الأشخاص الّذين قتلوا بهذه الطائرات غير محدّد.
[أجرى كاتب هذا التحقيق فيلمًا وثائقيًا بعنوان ” High value target” [أهداف عالية القيمة] سيتمّ بثّه على قناة الجزيرة يوم 4 يوليو 2015]