تقرير: صحيفة ذا ناشونال
عندما طردت إسرائيل مئات الآلاف من الفلسطينيين من قراهم ومنازلهم في عام 1948، غادر الكثير منهم وهم يحملون القليل من الملابس على ظهورهم. وقد تركوا الطعام على الموقد، ولم يحصدوا المحاصيل. لكنّ تلك الأرض التي أُفرغت من سكانها سرعان ما احتلها سكّان جدد.
من عام 1948 إلى عام 1953، تم إنشاء جميع المستوطنات اليهودية الجديدة فوق أراضي اللاجئين. كانت خرافة الصحراء المزدهرة مجرد كذبة؛ ففي منتصف عام 1949، كان أكثر من ثلثي الأراضي المزروعة بالحبوب في إسرائيل هي أراضي فلسطينية. وفي عام 1951، شكّلت الأرض “المهجورة” ما يقرب من 95% من بساتين الزيتون في إسرائيل ونحو 10 آلاف فدان من مزارع العنب.
أثناء هذه السنوات الأولى، حاول العديد من اللاجئين الفلسطينيين العودة إلى أراضيهم. وقبل عام 1956، قُتل ما لا يقل عن 5 آلاف ممن أُطلق عليهم “المتسللين” على يد القوات المسلحة الإسرائيلية، وكانت الغالبية العظمى منهم يبحثون عن العودة إلى ديارهم، واستعادة ممتلكاتهم، أو البحث عن أحبائهم. كما قُتلت النساء والأطفال الفلسطينيين الذين عبروا الحدود لجمع المحاصيل.
كانت النكبة في عام 1948 غزوًا استعماريًا استيطانيًا للأرض وتشريدًا لأصحابها، وهو عمل مزدوج من الإزالة والاستيلاء. استشهادًا بمبدأ “المصلحة الوطنية” قام أول رئيس وزراء إسرائيلي دافيد بن غوريون بتعيين لجنة أسماء النقب لإزالة الأسماء العربية من الخريطة. وقبل عام 1951، حدّدت لجنة التسمية في الصندوق الوطني اليهودي 200 اسمًا جديدًا.
ولكنّ الأمر لم يقتصر على هذه الديناميكيات والخرائط الجديدة. لقد شمل الاستعمار الصهيوني لفلسطين الثقافة، ولا سيما المطبخ الفلسطيني. هذا هو السياق لما يسمى بـ “حروب الحمص”: إنّها ليست بشأن المزاعم والادّعاءات المضادة التافهة، ولكنها قصة استعمار، واستيلاء ثقافي ومقاومة لتلك المحاولات.
في العقود التي تلت قيام إسرائيل على أنقاض الأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي، تم استهداف عناصر مختلفة من المأكولات الأصلية: الفلافل، والكنافة، والسحلب، وبطبيعة الحال، الحمص.
وعلى الرغم من أنّ هذه الأطباق مشتركة بين عدد من المجتمعات المحلية في جميع أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، إلّا أنّ إسرائيل تدّعي بأنّها مأكولات إسرائيلية: الفلافل هي “وجبة وطنية خفيفة”، والحمص، وفقًا لكاتبة المأكولات الإسرائيلي جنا غور، هو “دين”.
في مقال عن وصفات الطعام في عام 2002، اعترفت السفارة الإسرائيلية في واشنطن بأن “إسرائيل تفتقر إلى تراث الطهي منذ فترة طويلة“، مضيفةً أنّه “قبل بضع سنوات فقط، شكّ الإسرائيليون في وجود مأكولات أصيلة خاصة بهم“.
مثل هذا الاعتراف من الصعب العثور عليه هذه الأيام، حيث أصبح الاستيلاء على التراث مجرد دعاية ترويجية.
في عام 2011، كان رئيس الطهاة في القدس، مايكل كاتز، في زيارة إلى أستراليا وقال لصحيفة محلية هناك كيف أنّ الحكومة الإسرائيلية قررت، من خلال الثقافة، البدء في تحسين صورة إسرائيل”
“بدأوا بإرسال الفنانين والمطربين والرسامين والمخرجين، ثم جاءت فكرة إرسال الطهاة“.
في عام 2010، قررت الحكومة الإسرائيلية توزيع كتيبات في مطار تل أبيب، لتزويد الإسرائيليين المسافرين إلى الخارج، على حد تعبير وزير الدبلوماسية العامة آنذاك يولي ادلشتاين، “بالأدوات والنصائح لمساعدتهم على التعامل مع الهجوم على إسرائيل في حواراتهم مع الناس.” كان ضمن محتوى هذه الكتيبات الادّعاء بأنّ “إسرائيل هي من زرعت طماطم الكرز الشهيرة“
والآن، على حد تعبير الوكالة التلغرافية اليهودية في وقت سابق من هذا العام، “لقد كانت إسرائيل في تصاعد مستمر في مجال الطهي في الآونة الأخيرة، مع وجود عشرات من مدونات الطعام، والمطاعم الراقية، وبرامج الطهي ومشاهير الطهاة، والانجذاب لكل شيء متعلق بالطعام“.
وإلى جانب الطعام، هناك الكثير في أجندة إسرائيل لمبادرات العلاقات العامة في جميع أنحاء العالم. قبل بضع سنوات، أقام الطلاب المؤيدون لإسرائيل في جامعة برانديز، في ولاية ماساشوستس، “ليلة الشيشة” بمساعدة من “زملاء الدبلوماسية العامة الإسرائيلية” في الحرم الجامعي، وهي جماعة مؤيدة لإسرائيل التي لاحظت دون أي سخرية أن “الشيشة ليست هي الوجه الثقافي لإسرائيل“.
بالإضافة إلى التدخين والوجبات الخفيفة، شملت الأمسية “الثقافية” الراقصات. وشرح عضو في التحالف الصهيوني في جامعة برانديز الأساس المنطقي لهذا الحدث، وقال إنّهم وجدوا أنّ “الطلاب أكثر تقبلًا للثقافة المتعلقة بإسرائيل عندما نستخدم عدسة ثقافية أخرى“.
الآن لدينا “يوم الحمص العالمي”، الذي أطلقه الإسرائيلي، بن لانج، الذي يتحدث بصراحة حول قيمة الدعاية لمشروعه، ويقول: “الهدف من الفكرة هو ربط الناس بالحمص وجعل الكثير من الناس يتحدثون عن هذا الأمر وأتمنى أن يرى الناس أشياء جيدة تحدث في إسرائيل“.
“أردت فقط التأكد من أنّ الناس رأوا أنّ هذه المبادرة بدأت في إسرائيل“.
في ظل أنّ شيء من الطعام إلى الكوفية يستخدم “لإعادة تصنيف” الدولة التي استعمرت فلسطين في المقام الأول، ناضل الفلسطينيون من أجل استعادة مكانتهم.
عندما أدخل مصمم رقص إسرائيلي رقصة الدبكة ضمن مجموعة أعماله في عام 2013، ردت فرقة لرقص الدبكة في نيويورك بنقد مدروس ولاحظت كيف أنّه من خلال “الاستيلاء على رقصة الدبكة، ووصفها بأنّها رقصة إسرائيلية“، يختل ميزان القوى بشكل كبير.
وأضافت: “هذا يجعلنا نشعر بأنّه تم استغلالنا وتسليعنا“.
في ديسمبر عام 2014، بعد حملة قام بها الطلاب الفلسطينيون وحلفاؤهم، وافق اتحاد طلاب جامعة ويسليان في ولاية كونيتيكت على إزالة منتجات الحمص من شركة “صبرا” من مرافق تناول الطعام داخل الحرم الجامعي. يرمز هذا المنتج إلى عمليات الاستيلاء والوحشية التي تقوم بها إسرائيل الآن؛ فالشركة الأم، مجموعة شتراوس، تتبرع للجيش الإسرائيلي.
اتهامات الاستيلاء الثقافي يمكن أن تنتج بعض الردود المضللة. إنّ الأمر لا يتعلق بمن “سمح” بتناول هذا الطعام، أو حتى عن الاعتراض على التلقيح المختلط الذي يحدث في الثقافة من خلال اللغة، والمطبخ وغير ذلك.
هذا ليس الهدف. إنّ الأمر يتعلق بادّعاء الملكية في سياق إزالة تاريخية مستمرة وتهجير للشعب الفلسطيني، بالجهود المبذولة لخلق تاريخ اصطناعي يبرّر لإقامة واستمرار وجود دولة استعمارية استيطانية.
وقد أشار كاتب الطعام الإسرائيلي الشهير جيل حوفاف إلى هذه الحقيقة، وقال حوفاف لوسائل الإعلام الإسرائيلية العام الماضي: “إنّ الغذاء هو الذاكرة والهوية. ادّعاء ملكية الطعام هي وسيلة لتأكيد سردية الأمة. واليهود الإسرائيليون قد جعلوا من الحمص هوية خاصة بهم“
المطبخ هو المكان حيث تلتقي جهود إنكار وجود دولة فلسطين والاستيلاء على أرضها وتراثها. إنّها جريمة سرقة في حد ذاتها، ووسيلة لتبرير هذه السرقة.