تقرير: آلاء السوسي
قبل فترة قصيرة؛ قمنا بإعداد تحقيق عن خصوصية الوضع الثقافي بشكل عام، والأدب بشكل خاص، في قطاع غزة؛ هذه الخصوصية التي تنبع من تأزُّم الأوضاع السياسية، بفعل الصراع الخارجي مع الاحتلال، والداخلي المتمثل بالانقسام، بالإضافة إلى ثقلِ واقع القضية الفلسطينية، كقضية لا يمكن تجاهل حضورها “الإلزامي” في الأدب والثقافة؛ وهو ما يجعل الأديب محاصرًا –إلى حدٍّ ما- بخيارات الشكل والمضمون الذي يجب إنتاجه.
الآن؛ وبعد انتهاء مسابقة شاعر غزة، يمكن القول: إن هذه المسابقة كانت التمثيل الأبرز لهذه الحالة من التأزم الثقافي، وتَعَثُّر محاولات النهوض التي تصطدم بالواقع المعقد الذي يلقي ظلاله بثقل على كل نواحي الحياة، بما فيها الحياة الأدبية.
المسابقة كبداية
تم الإعلان عن مسابقة “شاعر غزة” في مطلع 2014، إذ بيّن “سامي أبو وطفة” مدير عام العمل الأهلي في وزارة الثقافة في حكومة غزة، عبر لقاء تلفزيوني في قناة الكتاب، أن هذه المسابقة جاءت من أجل توثيق علاقة الشاعر بالجمهور، وتشجيع الشعراء الشباب، وقد كانت الخطة بأن يتسع نطاق المسابقة لتكون “شاعر فلسطين”، لكن الانقسام السياسي الحاصل لم يسمح بهذا الاتساع.
وقد بين أن عدد من تقدموا للمسابقة كان 100 شاعر وشاعرة، تم اختيار 40 منهم، ليخوضوا المسابقة في المرحلة الأولى، ثم ستكون المرحلة الثانية مقتصرة على 21 شاعرًا وشاعرة، والمرحلة الثالثة والأخيرة ستكون المنافسة بين ستة شعراء فقط، عبر مهرجان ختامي، يتم خلاله اختيار “شاعر غزة”.
كما أكد أنه تمَّ مراعاة التقسيم الجغرافي للقطاع؛ فمن ضمن المحافظات الخمس، حظيت محافظتا غزة والوسطي بنصيبٍ أكبر، ذلك أن عدد الشعراء المتقدمين ونوعية الشعر في هاتين المحافظتين كان أعلى بالمقارنة ببقية المحافظات، أما بالنسبة للجنة التحكيم، فقد تم تشكيل لجنة تحكيم مختصة، ومزكَّاة أكاديميًا في كل محافظة، وفي المرحلة الأخيرة سيتم اختيار بعض المحكمين لتكوين لجنة نهائية للتحكيم.
الحرب والحصار
على الرغم من أن العدد يوحي بخللٍ ما؛ إذ إن أربعين شاعرًا بالنسبة للقطاع الصغير يبدو عددًا كبيرًا، إلا أن المرحلة الأولى سارت بشكلٍ جيد؛ حيث شهدت المسابقة تنظيمًا عاليًا، وتشاركية مع المؤسسات الأهلية التي وفرت قاعات المسابقة، وبأجواء تنافسية جيدة بين المتسابقين، وقد تم طرح الأسماء المتأهلة للمرحلة الثانية، غير أن ظروف الحرب التي بدأت في يوليو 2014، وانتهت بعد شهرين، إضافة إلى تأزم الأوضاع الاقتصادية أدَّى إلى توقف المسابقة إلى أجلٍ غير مسمَّى بحجة عدم كفاية التمويل، وتعقد الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب.
العودة مرة ثانية
في أبريل 2015 تم الحديث عن استكمال مراحل المسابقة، مع تخفيض الميزانية الممنوحة لها، أي تخفيض الجوائز المرصودة للمراكز الأولى في المسابقة، وقد كانت العودة إلى المسابقة عودة قوية، لكنها تطورت إلى مجموعة من الإشكاليات التي لم تشهدها المرحلة الأولى، وتطورت الأحداث.
في 14 مايو أعلن الشاعر ياسر الوقاد انسحابه من المسابقة، إثر مشادة كلامية تمت بينه وبين أحد المحكمين، الذي “استهزأ” بشعر الوقاد بدعوى عدم وضوحه، وقد أصدر الوقاد بيانًا يوضح فيه أسباب هذا الانسحاب، وتركه المسابقة:
وإذا كان الوقاد قد أعلن انسحابه بلهجة رزينة، ولأسبابٍ تتعلق بالتوجهات الفنية للنقاد، تشكك في أهليتهم للتحكيم، فإن الشاعر الشاب فارس صالح، كان قد أعلن عن احتجاجه على اللجنة بطريقة أكثر حدة، اتهم فيها اللجنة باتهامات عدة تبدو سياسية فكرية، منها: عدم النزاهة، الحزبية، الاستهزاء، فنشر عبر حسابه الشخصي في “فيس بوك” انسحابه، وأسبابه قائلاً: “أخبروني، ما هو معنى أن تشارك في مسابقة محلية يفهمُ أعضاء التحكيم فيها أن النقد تجريح للشعراء فيحطمون مسيرتك بتعليق وتجربتك بسفه وجرأة على الإحباط. يشّبهون شاعرًا بممثل كوميدي ويقولون لآخر: من قال إنك شاعر؟! ولكنهم يمجدون آخرين ويكأنَّهم الخنساء ورابعة! تبت عنصريتكم وحزبيتكم وعماكم الثقافي وجهلكم الفني. يحاولون إنشاءَ جيلٍ من السيرياليين فوضاويي المعاني، يطبعون كُتبهم ويروجون بضائعهم ويحاولون طمسَ الثائرين المستقلين الذين لا يغريهم اليمين بشعاراته الكذابة ولا اليسارُ بأمجاده الواهمة”.
على الرغم من حدة هذا التصريح حول اللجنة، وتناقضه؛ إذ مرة يصرح أن اللجنة تريد خلق جيل “سريالي من فوضاويِّي المعاني”، ومرة يقول بأنهم حزبيون عنصريون، وهذا تناقضٌ فجّ، لأن الأدب الحزبي ملتزم وأيديولوجي بطبعه، وليس فوضويًا، خصوصًا إن كنا نتحكم عن نقاد ذوي ميول إسلامية.
على إثر هذه المشادات سادت أجواء من التوتر أدت في النهاية إلى إعلان مجموعة من الشعراء: المتأهلين وغير المتأهلين في المسابقة لإصدار بيان انسحاب يوضح موقفهم من المسابقة:
النتائج
بعد انسحاب شعراء كان يُتَوَقَّع أنهم سيشكِّلون جوًا تنافسيًا كبيرًا في المسابقة كالشاعر محمد دويدار وياسر الوقاد، أصبحت الأسماء المتنافسة أقل -وهذا لا ينفي جدارتها-، وهذا ربما ما جعل النتائج -وعلى نحو مدهش- تحجز المراكز الأربعة الأولى لأربع شاعرات، هنَّ على التوالي: سمية وادي، آلاء القطراوي، عفاف الحساسنة، هبة أبو ندى.
هذا الحضور النسوي الغالب أدى إلى زيادة الأزمة، فعبر حسابه الشخصي نشر الشاعر عماد الدين أبو نعمة مشككًا في نزاهة اللجنة قائلاً: “نبارك للأربع شاعرات اللواتي فزن في مسابقة”.
رغم هذه الإشكاليات جميعًا، إلا أن الدكتور عبد الفتاح أبو زايدة، عضو لجنة تحكيم المسابقة، يرى أن “المسابقة نجحت بكل المعايير الفنية والموضوعية”، وأن “اللجنة تتكون من أساتذة جامعيين مختصين بالأدب والنقد، وليسوا بحاجة إلى تزكية من أحد.” أما عن النتائج التي حجزت للشاعرات، رد أبو زايدة: “انسحب الشعراء الشباب، فبقيت ساحة المسابقة للشاعرات، وسجلن فوزهن بجدارة“.
أما بالنسبة للشاعرة سمية وادي، الحاصلة على المركز الأول في المسابقة، فهي ترى أن “المسابقة تغطي جزءًا من النقص في المشهد. ولعلني لا أقف في موقف الندية أمام وزارة الثقافة لأحتج على الأوضاع التي شهدتها المسابقة من مماطلة وتأخير، لأننا كلنا نعيش في بوتقة العذاب وقد طالت المسؤول قبل الشعب، لذلك الذين احتجوا على المسابقة وانسحبوا في منتصف الطريق كان الأجدر بهم أن اليد المترهلة حين تقف لتصافحهم فإن عليهم أن يحترموا الإمكانات لا أن يقطعوها، فالجود من الموجود“.
أزمة واقع معقد
إن هذه الإشكاليات لا تعكس ذاتها، بقدر ما تعكس السياقات العامة التي يدور في فلكها الواقع الفلسطيني، والذي يتميز بسهولة انتقال أية إشكالية، من كونها إشكالية ضمن مستوى ونطاق معين إلى مستوى أكبر، وهو مستوى الرؤية السياسية والأيديولوجية. وهذا ما يجعل الأدب مرتبطًا بشكل عام بالهاجس السياسي والأيديولوجي وأيضًا انعدام الثقة بين المؤسسة والفرد، خصوصًا إذا كانت المؤسسة لها ميول واضحة باتجاه فكري معين، هذا الشك الدائم بين المؤسسة الثقافية والفرد، والناتج عن مشاكل إقصائية من الطرفين، وبصورة أكبر هي أزمة إقصاء المؤسسة للفرد بأشكال مباشرة وغير مباشرة، والذي يؤدي في النهاية إلى انعدام وجود فرصة حقيقية لتفعيل المشهد الثقافي والإبداعي بشكل مجدٍ.