"أنا شفت الموت بعيوني، والدبابة كانت أمامي"، بهذه الكلمات اختصر المواطن محمد بربخ، رحلته نحو "كرتونة" غذائية قدمتها "مؤسسة غزة" الأميركية، عبر نقطة توزيع تُشرف عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حي تل السلطان غربي رفح جنوبي قطاع غزة.
هذه النقطة هي واحدة من أربع نقاط توزيع أقامتها المؤسسة الأميركية بالتنسيق مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، ضمن آلية جديدة لتوزيع المساعدات، تشمل نقطة في وسط القطاع وثلاث نقاط في جنوبه.
وكانت "مؤسسة غزة" أعلنت أنها افتتحت موقعاً ثالثاً لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، يوم الخميس المنصرم، وأنها وزعت منذ بدء عملياتها، الاثنين، مليون و838 ألفاً و182وجبة.
وقالت المؤسسة، في بيان: "ستستمر العمليات في التوسع في جميع المواقع، مع خطط لبناء مواقع إضافية في جميع أنحاء غزة، بما في ذلك المنطقة الشمالية، خلال الأسابيع المقبلة".
وقوبِلت الآلية الجديدة، برفضٍ شعبي وأممي ودولي واسع، إذ إن تلك المساعدات لا تبدو سوى فخ محكم، هَنْدَسَتْهُ حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالشراكة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ لتجويع ما تبقى من حياة في قطاع غزة، الذي يتعرض لتطهير عرقي وحرب إبادة جماعية منذ السابع من أكتوبر للعام 2023، وحصار خانق براً، وبحراً، وجواً منذ 18 مارس 2025م، ما أدى إلى تفشي المجاعة بشكل كارثي في القطاع المحاصر.
وأظهرت صور وفيديوهات، اندفاع آلاف المُجوَّعين نحو نقاط التوزيع في مشهد مأساوي وقاسٍ، انتهى باقتحام مراكز التوزيع والاستيلاء على الطعام تحت وطأة الجوع الشديد، وتدخل قوات الاحتلال بإطلاق النار وقتل وإصابة عدد من المواطنين؛ لتتحوّل "المساعدات الإنسانية" إلى لعنة إضافية تثقل كاهل المدنيين.
ويتحدث النازحون عن معاناة قاسية في سبيل الوصول إلى تلك النقاط، إذ يضطرون للسير مشياً على الأقدام لمسافات طويلة تُقدَّر بآلاف ومئات الكيلومترات، عبر طرق ترابية وعرة ومحفوفة بالخطر والموت والنهب.
وتقول "أم أحمد"، وهي نازحة من مدينة رفح وتقيم في خيمة بمنطقة مواصي خانيونس: "أنا مش قادرة أجيب كابونة، الطريق طويلة، وفيها لصوص، ولو وصلت يمكن يرجعوني عشان ما في راجل معي".
من جانبه، وصف "خليل القاضي"، وهو نازحٌ تمكن من الحصول على "كرتونة" مساعدات بعد إجراء مسح لبصمة العين، الآلية الجديدة بالمهينة، وقال: "نقاط التوزيع تفتقر إلى النظام، الزحام عشوائي، وتعامل طواقم الأمن غير إنساني ويمتهن الكرامة، كإنك بتشحد كرامتك قبل الأكل!".
وأفاد شهود عيان بارتقاء عدد من الشهداء آخرين نتيجة إطلاق النار، كما تحدثت تقارير عن حالات اعتقال واختفاء، مما يعكس التدهور الحاد في المسار الإنساني الذي تقوده قوات الاحتلال ضمن الآلية الجديدة.
كما أُصيب العشرات خلال التدافع وإطلاق النار داخل مراكز التوزيع، وسط انتقادات متزايدة لهذه الآلية، وأكد "المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسراً"، فقدان عدد من الفلسطينيين بعد توجههم لتسلم المساعدات.
وأفادت مصادر بمجمع ناصر الطبي، بارتقاء 4 شهداء، اليوم السبت، بنيران الاحتلال لدى محاولتهم الوصول لمركز مساعدات الشركة الأمريكية غربي رفح، وبذلك يرتفع عدد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين جراء آلية المساعدات الأمريكية الإسرائيلية إلى 17 شهيداً و86 مصاباً، في أحدث إحصائية نشرتها وزارة الصحة بغزة.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
ومنذ يومها الأول، انهارت الخطة الإسرائيلية الأميركية لتوزيع المساعدات في غزة، إذ انسحب عناصر المؤسسة الأميركية من الموقع بعد اندلاع حالة من الفوضى، تزامناً مع إطلاق قوات الاحتلال النار بشكل مكثف باتجاه المدنيين، ما أدى إلى تفاقم الوضع وخروج المركز عن السيطرة، وسط حالة من الفوضى والذعر.
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أن "مشروع الاحتلال الإسرائيلي لتوزيع المساعدات في ما يسمى المناطق العازلة قد فشل فشلاً ذريعاً وفقا للتقارير الميدانية ووفقاً لما أعلن عنه الإعلام العبري كذلك".
ووصف "الإعلامي الحكومي" تلك المناطق بالـ"غيتوهات"، مشيراً إلى أن أن "إقامة غيتوهات عازلة لتوزيع مساعدات محدودة وسط خطر الموت والرصاص والجوع، لا تعكس نية حقيقية للمعالجة، بل تجسد هندسة سياسية ممنهجة لإدامة التجويع وتفكيك المجتمع الفلسطيني، وفرض مسارات إنسانية مُسيّسة تخدم مشروع الاحتلال الأمني والعسكري".
وأوضح أن ما حدث من عشوائية في التوزيع هو دليل قاطع على فشل الاحتلال في إدارة الوضع الإنساني الذي خلقه عمداً، من خلال سياسة التجويع والحصار والقصف، وهو ما يشكل استمراراً لجريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان بموجب القانون الدولي، لا سيما المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948".
وحمَّل "الإعلامي الحكومي"، الاحتلال كامل المسؤولية القانونية والإنسانية عن حالة الانهيار الغذائي في غزة، مُدِيناً استخدامه المساعدات كسلاح حرب وأداة للابتزاز السياسي، وإصراره على منع دخول الإغاثة عبر المعابر الرسمية والمنظمات الأممية والدولية.
كما عبَّر سكان القطاع، عن قلقهم البالغ من الأساليب التي تتبعها شركة الأمن الأميركية لتسليم المساعدات، عبر جمع بيانات شخصية ومسح لبصمة العين خلال عمليات التسجيل، وقال الشاب عمر سعيد: "هذه ليست معونات، هذا معسكر غيتو متطور، الكابونة أصبحت فخاً استخباراتياً يقايض الجائع على خبزه".
في حين اعتبر أمجد أبو قطيفان أن "هذه الآلية تعيد للأذهان مشاهد الغيتوهات الأوروبية في الحروب السابقة، في محاولة لترسيخ واقع الفصل بين الجائع وخبزه، والإنسان وكرامته".
وفي ظل غياب الأمن وانتشار الفوضى في قطاع غزة، نشطت عصابات مسلحة على امتداد الطرق المؤدية إلى نقاط التوزيع، لتسرق من يحصلون على المساعدات بعد رحلة طويلة من العناء.
ويوضح أحد شهود العيان من مدينة دير البلح، أنه رأى شاباً "يُسحل ويُضرب في الطريق من قبل عصابة ملثمة وتحمل الأسلحة النارية والسكاكين وسرقت منه الكابونة بعد عنائه في الحصول عليها.
اقرأ المزيد: "الكارثة الإنسانية" في غزة تتفاقم والاحتلال يحاول هندسة الجوع بطرق تمتهن الكرامة
وترفض الأمم المتحدة ووكالاتها ومنظماتها، التعاون مع "مؤسسة غزة" الأميركية؛ لأنها لا تلتزم بالمبادئ الإنسانية الدولية، كما جاء على لسان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك.
وشدد "دوجاريك" على أنه لا يوجد فرق بين قائمة المستفيدين الذين تتعامل معهم المنظمة الجديدة وتلك التي وافقت عليها الأمم المتحدة سابقاً، مضيفاً: "لن نشارك في عمليات لا تحترم مبادئنا الإنسانية".
وأوضح أن الأمم المتحدة تبذل جهوداً مكثفة لتسلم المساعدات التي تمر عبر معبر كرم أبو سالم وتوزيعها على المحتاجين، مؤكداً أن أي تأخير أو عرقلة لا تعود إلى تقاعس أممي بل إلى القيود المفروضة من قبل "إسرائيل" نفسها.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن سكان قطاع غزة يواجهون خطر المجاعة الحقيقية، وأن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ أكثر من 20 شهراً، إلى جانب الحصار المشدد، أدى إلى انهيار شبه تام في البنية التحتية والخدمات الصحية والإنسانية، حيث أكدت أن المدنيين بغزة يموتون قصفاً، وحرقاً وجوعاً.