يتنقل "أحمد" بين مقاطع الفيديو المخزنة في هاتف والده الذي يمسكه بيدٍ واحدة، في حين تُلَف يده الأخرى بجبيرة من الجبص، حتى استقر على مقطعٍ قديم يجمعه بأخيه "محمد"، إذ يظهران فيه وهما يؤديان حركات متناسقة، ويقفزان بخفة في الهواء، يدوران، يبتسمان، كانا كأنهما روحٌ واحدة تتجسد في جسدين.
يُحدِّق "أحمد الغلبان" (13 عاماً)، في شاشة الهاتف مطولاً، قبل أن يُقرِّب الصورة، ويمرر أصابعه على وجه أخيه الشهيد "محمد"، وتلمع عيناه بحرقةٍ لا تُروى، لتمتلأ وجنتاه بالدموع التي سالت من محجريه.
"كنا نطير يا محمد، كنا نطير"، بهذه الكلمات همس الطفل "الغلبان"، قبل أن يطفئ الشاشة ويغرق في صمتٍ طويل، لن يكسره سوى صوت مواساة والده له، الذي كان يجلس بجانبه على سرير حديدي داخل خيمة نزوح، وقد لفَّ الألم جسد "أحمد" الصغير، بعدما بَترت الحرب قدميه وخطفت روح أخيه التوأم "محمد"، واغتالت أحلامه، في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، والتي لم يُشهد لها مثيل في التاريخ الحديث.
الحكاية المؤلمة بدأت حين أصدرت قوات الاحتلال الإسرائيلي في العام 2023 أوامر بإخلاء منطقة الشيماء شمال قطاع غزة؛ لتهرب العائلات من تلك المنطقة تحت وقع القصف المدفعي والحربي، ويخرج الطفل "أحمد" برفقة شقيقه التوأم "محمد"، وخاله، وابنة خاله، حاملين بعض الأغراض متجهين إلى المجهول، غير مدركين أن طريقهم سيمر بجسر من الدماء.
يقول الطفل "أحمد"، لمراسل "شمس نيوز"، الذي زاره في خيمته: "بينما كنا نمشي، سقطت قذيفة إسرائيلية مباشرة علينا"، وأضاف بعد أن سرح بعينيه في الأفق: "استُشهد أخوي محمد، وخالي، وبنت خالي، وأنا انبترت رجليّ الاثنتين، وانبتر أربع أصابع من إيدي الشمال، وانكسرت إيدي اليمين".
بعد الاستهداف الدامي، حملت مجموعة من الشباب المصابين والشهداء ونقلوهم عبر "توكتوت" إلى المستشفى الإندونيسي شمالي قطاع غزة.
يرجع "أحمد" بشريط ذاكرته إلى تلك اللحظات، التي لازال يذكرها جيداً، ويقول: "شفت محمد كان بيقرأ قرآن وبيستغفر، وأنا صرت أقرأ زيه، حتى وهم بيبتروا رجلي، كنت بقرأ قرآن".
حين وصل الطفل "الغلبان" إلى المستشفى الإندونيسي، أجرى الأطباء له عملية جراحية مستعجلة أدت إلى بتر قدميه الاثنتين، وعدداً من أصابع يده اليسرى، وكان واعياً أثناء العملية، يقول: " شفتهم بيجيبوا الأدوات، وبيقصّوا فيها رجليَّ"، ثم غاب وعيه تحت تأثير البنج، ليرى بعد أن خرج من العمليات، أن قدميه بُتِرتا، وعدداً من أصابعه كذلك: "اطلعت على رجليَّ شفتهم مبتورين، وشفت محمد متقطع من وسطه، وخالي كمان، وبنت خالي استُشهدت على طول".
هنا، اختلطت مشاعر الطفل المكلوم، واجتاحته نوبة من البكاء، وقال بعد أن أفاق منها: "شو ذنبنا يستهدفنا الاحتلال؟ احنا أطفال صغار، وكنا نازحين شايلين أغراضنا، لكن هذا الاحتلال حاقد ومجرم"، لكنه بعد ذلك ابتسم ابتسامة حزينة ممتزجة بالرضا، وردَّد: "الحمد لله على كل حال".
قبل الحرب، كان أحمد وشقيقه "محمد" نجمان رياضيان صغيران ومتميزان، في سماء رياضة "الجمباز" بغزة، إذ التحقا بنادي "مدرسة نجوم غزة للسيرك"، وتفوقا في رياضة "الجمباز"، إذ كانا يُتقنان القفز والالتفاف في الهواء كطيرٍ مرح، حتى أصبحا من الأوائل في فئتهما العمرية على مستوى قطاع غزة، يوضح: "كان المدربون يحبونا كتير، ويطلعونا على عروض كبيرة عشان نبسط الأولاد ونساعدهم"، لكنه بات الآن كعصفورٍ مكسور الجناحين، لا يستطيع مغادرة خيمته.
وحتى منتصف الحرب العدوانية، لم يتوقف الطفلان الشقيقان عن ممارسة الرياضة، فقد خصصا أياماً لممارسة "الجمباز" على شاطئ البحر، رغم المخاطر والاستهدافات الإسرائيلية؛ وذلك لأن "الحلم لا يُؤجل، ولأن غزة لا تكف عن الحياة حتى في الموت" -كما يؤكد الطفل "أحمد"-.
لكن اشتداد وتيرة الحرب، أجبرته على النزوح مع عائلة، ليفقد في رحلة الهروب القاتلة شقيقه التوأم، وساقيه، وأحلامه الصغيرة، ويعيش في خيمة حرّها لا يُطاق، وسط الغبار والبعوض، على سرير متهالك؛ ليكون مصحفه الصغير، ومسبحة أخيه محمد، ومواساة والديه، هما شركاء وحدته الطويلة، وسنده في مواجهة حياةٍ فقدت معناها، ويكون صوته العذب الجميل الذي يقرأ فيه القرآن الكريم، وكأنه أُوتِيَ مزماراً من مزامير داوود، مصدراً للسكينة داخل الخيمة المُوشَّحة بالحزن.
أما على صعيده الشخصي، فيناشد الطفل "أحمد" المنظمات الدولية والحقوقية بالعمل على تسهيل سفره للعلاج خارج غزة وتركيب أطراف صناعية، يقول: "نفسي أتعالج برا غزة وأركِّب أطراف صناعية، عشان أرجع أمشي وألعب جمباز وألعب كورة وأروح وين ما بدي، ونفسي أرجع أعيش حياة طبيعية".
كما وجَّه الطفل "الغلبان" نداء من جرحه المفتوح إلى العالم أجمع، لإيقاف الحرب بشكل فوري، وفتح المعابر، وإدخال المساعدات الإنسانية والدواء والغذاء بشكل عاجل؛ لأن الأوضاع في غزة كارثية بكل معنى الكلمة.
جائحة إعاقات في غزة
وفي وقت سابق، كشفت وزارة الصحة بغزة، عن وجود 4500 حالة بتر بينهم 800 طفل و540 سيدة.
وقال المدير العام في وزارة الصحة في قطاع غزة، الدكتور منير البرش، إن مستشفيات القطاع تفتقد لأبسط المقومات و80% من المرضى لا يجدون أدويتهم.
بدوره، قال الجهاز المركزي للإحصاء، في وقت سابق، إن العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، ألقى آثاره بشكل كارثي على الأطفال في قطاع غزة، التي تتمثل في إصابات جسدية خطيرة، تترك آثاراً طويلة الأمد على صحتهم وحياتهم، قد يحتاجون إلى جراحات متكررة وعلاجات طبية مكلفة، كما أن الإصابات قد تؤدي إلى الإعاقة والعجز الدائمين.
وأشار تقرير للإحصاء، نشره تزامناً مع اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، أنه وفقًا لتقرير صادر عن منظمة "إنقاذ الطفل" ونقلا عن اليونيسف في كانون الثاني 2024، فقد تم تسجيل بتر أطراف أكثر من 1,000 طفل، أي بمعدل أكثر من 10 أطفال يوميًا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العدوان.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
ولفت إلى أن التقارير الصادرة عن وزارة الصحة إلى أن ما نسبته 70% من إجمالي الجرحى البالغ عددهم 104,567 حتى تاريخ 24 نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي هم من الأطفال والنساء.
وقال جهاز الإحصاء، إن عدد الإصابات الجسيمة التي غيّرت مجرى الحياة في قطاع غزة والتي تتطلب إعادة تأهيل مستمرة قُدرت بحوالي 25% من إجمالي عدد الإصابات، أي ما لا يقل عن 26,140 شخصا، حتى ذلك التاريخ.
واستند "الإحصاء" في بيانه، إلى تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية بتاريخ 30/7/2024، حول تحليل لأنواع الإصابات الناجمة عن الحرب، إذ استُخدمت فيه التقارير اليومية الصادرة عن بيانات فرق الطوارئ الطبية (EMT) في الفترة من 10 كانون الثاني إلى 16 أيار 2024، لتقدير عدد الإصابات الخطيرة التي تتطلب رعاية وإعادة تأهيل مستمرتين في غزة، تتضمن هذه الحالات ما بين 13,455 و17,550 إصابة خطيرة في الأطراف، بالإضافة إلى 3,105 - 4,050 حالة بتر للأطراف، معظمها من الأطراف السفلية.
اخترنا لكم: الطفل "صهيب خزيق".. ساقيَّ لا تذهبان حيث تطير العصافير!
وتشن "إسرائيل" بدعم أمريكي كامل، وتواطؤ غربي، منذ السابع من أكتوبر 2023، حرب إبادة جماعية ضد المدنيين في قطاع غزة سواء كانوا أطفال أو نساء أو مسنين أو حتى رجال، فيما استخدم الاحتلال أساليب جديدة للقتل منها سياسة التجويع والتدمير التهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة أكثر من 178 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين.