تقدح عيونهم شرارا وغضبا، ويركضون بسرعة وسط صرخات عالية "وسعوا الطريق الراجل عدوا مات"، كان الازدحام كبيرا، بينما تتطاير قطرات العرق من أجسادهم التي اختلطت بالدماء والطحين، وعلى أكتافهم يحملون لوحٌ خشبي -مشطاح- اخضب بدماء شابِ حاول الحصول على كيس طحين لاخماد جوع شقيقاته السبع ووالديه.
هذا ليس فيلما سينمائي أو قصة روائية أو خيالية مشوقة، إنما مشهدٌ حقيقيٌ يتكرر يوميا في قطاع عزة لا سيما منذ بدء آلية توزيع المساعدات الإغاثية على المجوعين أو سرقة الشاحنات من قبل اللصوص وقطاع الطرق، شمال ووسط وجنوب القطاع.
مشهد الشاب محمد الزعانين (20 عاما) فوق -المشطاح الخشبي- يدمي القلب، وبصعوبة بالغة تمكن حامليه على الاكتاف من الوصول إلى سيارة مدنية، حينها كان محمد قد فارق الحياة بعدما نزف الكثير من الدماء.
حياة أسرة محمد مليئة بآلام القهر والوجع والذل منذ السابع من أكتوبر (2023)، فقد التقى مراسل "شمس نيوز" أسرة الزعانين في خيمة مهترئة تضم نحو 10 أفراد، يتضورون جوعا ويبكون دما.
نزوح وقهر
بدأت حكاية أسرة الزعانين منذ بدء حرب الإبادة في السابع من أكتوبر (2023) حينما هاجمت طائرات الاحتلال منطقة سكناهم في بيت حانون ليضطروا إلى النزوح نحو المعسكر ثم جباليا ومنها إلى غزة والجنوب، تقول والدته: "نزحنا أكثر من 10 مرات منذ بداية الحرب، كان النزوح مليئ بالذل والقهر والوجع".
وتعتمد أم محمد على نجلها في كل شيء خاصة أثناء النزوح، موضحة بأن محمد هو الوحيد لها من الذكور على 7 بنات "فكان السند الذي حمل أعباء الأسرة منذ نحو 19 شهرا من حرب الابادة".
المجاعة
تتوقف أم محمد برهة من الوقت وهي تستعيد ذكرياتها مع نجلها، ثم تجهش بالبكاء "كان محمد هادئا جدا وحنونا على خواته، لا يأكل شيء قبل أن يطعمنا، كان يغار على خواته ويهتم بادق التفاصيل لحمايتهن وتوفير لقمة العيش لهن".
لم يطلب محمد شيء في هذه الدنيا سوى أن يتزوج ليكمل "نصف دينه"، وكان يحلم بفتح بسطة صغيرة، لتوفير لقمة العيش في ظل الأوضاع المأساوية التي نعيشها زمن الابادة.
تفشى الجوع في القطاع بفعل الحصار وتداعيات الحرب، ولم تخلُ خيمة أم محمد من شكوى عدم توفر الطحين والمواد التموينية، تشير الزعانين إلى أنها لا تملك ثمن شراء طحين من السوق السوداء اذ بلغ سعر كيلو الطحين حوالي (55 شيكل وفي بعض الأيام 100 شيكل)
وفي ظل عدم توفر الطحين وارتفاع أسعاره بشكل جنوني اضطر محمد الزعانين لاقناع والدته بضرورة التوجه إلى مراكز المساعدات وطرق إدخال الشاحنات، فقد بينت والدته أن "الجوع هو الذي دفع محمد لانتظار دخول الشاحنات أملا في الحصول على كيس طحين أو بعض المعلبات".
رحلة الموت
في الساعات الأولى من الصباح الباكر كان محمد يجلس على باب خيمته؛ إذ مرت الساعات كلمح البصر؛ وفي تلك اللحظات رصد حركة نشطة من أصدقائه وجموع النازحين باتجاه منطقة زكيم شمال القطاع، وفجأة دوى في أذنه صدى صوت شقيقته وهي تبلغه فجرا "فش عنا خبز ولا أي نوع من أنواع الطعام، شو بدنا ناكل مش عارفين!"، حينها همس في أذنها "الرزق على الله وهناك تكايا الخير".
عاد محمد ليفكر في الالتحاق بأصدقائه والتوجه لمنطقة زكيم، ابتسم ثم وقف مسرعا داخل الخيمة أبلغ شقيقته بأنه ذاهب إلى الحلاق ثم عاد وقد حلق رأسه ولحيته وقص أظافره، ووزع ابتساماته هنا وهناك، وقبل المغادرة أعطى شقيقته ما يملك من أموال وقال: "سأعود في الليل أخدهم منك".
حمل محمد حقيبته وغادر الخيمة متجها إلى منطقة زكيم، وهناك كانت الفاجعة، زحام شديد ووجوه مختلطة بالبؤس وأخرى باللؤم كقطاع الطرق واللصوص، تقدم محمد بخطوات مليئة بالأمل للحصول على كيس طحين ويسد جوع إخوته السبعة.
تتجه أقدامه إلى الشمال للوصول لأقرب نقطة، وما أن وصلت الشاحنات وبدأ الناس يحصلون على أكياس الدقيق حتى تفاجأ بدخول طائرات الاحتلال للأجواء وبدأت تلقي برصاصها الغادر صوب صدور الجوعى.
ثوان معدودة حتى اخترقت رصاصة قاتلة صدر محمد لتخرج من ظهره ثم تخترق حقيبته، ليسقط على كيس طحين وهنا اختلطت دمائه بالطحين.
لم يجد أصدقائه سوى لوح خشبي -مشطاح الطحين- ليضعوه عليه ثم يخرجون بصعوبة بالغة ليرتقي شهيد لقمة العيش، وتبدأ معاناة خواته السبع ووالديه.
تقول أم محمد لمراسلنا: "محمد راح يجيب كيس طحين وعاد محمول على الاكتاف، محمد كسر ظهري ليوم الدين".
وعن مشهد حمل محمد على لوح خشبي -المشطاح- ذكرت وهي تجهش بالبكاء "كلما شاهدت الصورة تقطع قلبي وبكيت دما"
ونظرا للمشهد الصعب والفراق المؤلم تناشد أم محمد العائلات الغزية بمنع أبنائها من التوجه لنقاط توزيع المساعدات أو التجمهر لسرقة الشاحنات، قائلة: "ما فيه أغلى من الولد".
550 شهيد من الجوعى
وبدأت مؤسسة يطلق عليها "غزة الإنسانية" يقودها متعاقدون أمريكيون مسلحون بدعم كامل من قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي نشاطها في نهاية شهر (مايو/آيار الماضي)، ومع مرور الوقت تبين أن مراكز المؤسسة عبارة عن مصائد لقتل الفلسطينيين المجوعين.
وسجلت وزارة الصحة في غزة استشهاد نحو 550 مواطنا قرب مراكز مؤسسة "غزة الإنسانية" أو سرقة الشاحنات أثناء سعيهم للحصول على المساعدات.
وتفاقمت معاناة الغزيين عقب إغلاق الاحتلال جميع المعابر ومنع إدخال أي مساعدات إغاثية وإنسانية منذ بداية شهر مارس الماضي ما تسبب بتفشي المجاعة، وهذا الذي دفع الغزيين للتوجه إلى مراكز الموت أو سرقة شاحنات المساعدات التي بدأت تدخل للقطاع بكميات شحيحة جدا.