استيقظت أم "عبد الكريم" مفزوعة على وقع انفجارات كبيرة، تلاها نيران التهمت كلَّ ما حولها في الطوابق العلوية، صراخ وصيحات استغاثة "أين الاسعافات؟، أسرعوا يا جماعة اتصلوا على الاسعافات أجساد الناس تُحرق".
في تلك اللحظات المؤلمة أدارت أم عبد الكريم جسدها نحو ابنها الذي كان نائما على يسارها، مدت يدها تتحسس جسده وسط ظلام دامس؛ لتصاب بالرعب "أين رأسك يا حبيبي؟"، أجابها بصوت متردد : "أنا هنا يا أمي"، وكان رأسه قد سقط في حفرة أحدثها صاروخ إسرائيلي لم ينفجر.
مشهدٌ مرعبٌ عاشته عائلة الفتى عبد الكريم أبو عمشة (14 عاما)، عندما وصلت عقارب الساعة إلى الثانية فجرا من يوم الثلاثاء (20/5/2025)، حينها انقلبت حياتهم رأسا على عقب.
تغيرت أحلام عبد الكريم وطموحه، فبدلا من اكمال مشواره في الرياضة والسباحة بات يطالب بتركيب أطرافا صناعية لذراعيه وقدمه المبتورة؛ ليتمكن من الاستمرار في الحياة.
نزوح بداية الحرب
بدأت حكاية "أبو عمشة" مبكرا عندما نزحت أسرته من بيت حانون شمال قطاع غزة، على وقع حرب الابادة التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر (2023) ضد المدنيين في القطاع.
تنقلت أسرة الفتى أبو عمشة مجبرة نحو (7) مرات بين مدن شمال قطاع غزة حتى استقرت في مدرسة موسى بن نصير في حي التفاح شمال مدينة غزة.
تعرض المدرسة لثلاث استهدافات مباشرة أدت لسقوط عشرات الشهداء والجرحى، إلا أن أسرة الفتى أبو عمشة تمسكت بوجودها في المدرسة ولسان حالهم يقول "وين نروح؟ فش أماكن آمنة!".
لحظات ما قبل الكارثة
اعتاد أبناء عائلة أبو عمشة الالتقاء كل ليلة في أحد الفصول الدراسية بالطابق الثالث للمدرسة، لمتابعة أخر تفاصيل مفاوضات وقف اطلاق النار وتلمس أحوال بعضهم البعض في ظل حرب الابادة والأسعار المجنونة.
بصوت يملأه الشوق للجلسات العائلية يقول عبد الكريم: "في الساعة الحادية عشر كنت جالسا مع أبناء عمي وخالي نتحدث عن أهوال الحرب، ونستذكر بعض الأحداث قبل السابع من اكتوبر".
استعاد عبد الكريم شريط ذاكرته للوراء متحدثا عن الأيام الجميلة: "كل يوم كنت أذهب لنادي بيت حانون ألعب كرة القدم، وكنت أذهب للبحر أتدرب على السباحة التي أعشقها كثيرا".
لحظة الاستهداف
وقضى الفتى عبد الكريم ساعات من الابتسامات والضحكات مع أقاربه وعندما دقت الساعة الواحدة ليلا، خلد كل واحد منهم إلى فصله للنوم.
وضع عبد الكريم رأسه على الوسادة بجانب والدته، على أمل أن يذهب في الصباح الباكر إلى ميناء غزة لممارسة السباحة مع أقاربه.
كان الليل هادئا سوى من أزيز الطائرات الحربية التي تبحث عن صيد ثمين -كما يقال- وما أن وصل مؤشر الساعة عند الثانية فجرا حتى انقلب الهدوء وتحولت المدرسة إلى جحيم.
دوت ثلاث انفجارات في الجناح الشرقي من الطوابق العلوية لمدرسة موسى بن نصير فيما اخترق رابع سقف الفصل الذي ينام فيه عبد الكريم ليسقط الصاروخ تحت رأسه.
تروي والدته المشهد لمراسل "شمس نيوز" باكية: "رأيت فراشة الصاروخ تلتف حول ذراع عبد الكريم، وتقطعها 4 قطع كالسكين، بينما قدمه وذراعه الأخرى لا يمسكها سوى جلدة".
ابتلعت الأم ريقها وجلست أمام مشهد قطع أطراف نجلها عبد الكريم مفزوعة دون أن تصدر أي صوت تقول: "أُصبت بالصدمة لم أُبلغ زوجي الذي كان منهمكا بمحاولة فتح الباب الذي أطبق علينا وسط ظلام دامس".
مسحت أم عبد الكريم الدماء التي غطت وجهها، وابتلعت ريقها قبل أن تنفجر بصرخة مدوية: "الولد اتقطع!"، صرختها دوت في أرجاء المدرسة كلها، ما دفع الأب للضرب بقوة على باب الفصل الذي تمكن من كسره بصعوبة.
تمكن أشقاء عبد الكريم من نقله لساحة المدرسة حيث بقي نحو مصف ساعة ينزف لعدم تمكن سيارات الاسعاف من الوصول إليه بسبب خطورة المنطقة، وما أن وصلته مركبات الاسعاف حتى فقد الكثير من دمائه.
نُقل عبد الكريم لمستشفى المعمداني وهناك بترت ذراعيه الاثنتين وساقه يقول لمراسلنا: "شفت الموت بعيوني، أطرافي بترت، النار تحيط بي من كل جانب، ورأيت وجه أمي وعلامات الرعب والموت تجري في عروقها".
رسالة جريح
مرت أيام وأسابيع على حادثة استهداف مدرسة موسى بن نصير الذي استشهد فيها نحو (16) نازحا وأصيب العشرات بينهم الفتى عبد الكريم أبو عمشة.
يطالب عبد الكريم اليوم العالم أجمع ومؤسسات حقوق الانسان ومنظمات الصحة العالمية لمساعدته في السفر خارج قطاع غزة لتركيب أطراف صناعية لذراعيه الاثنتين وساقه المبتورة، ويأمل الفتى من استعادة حياته كغيره من أبناء العالم الذي يتمتعون بالأمن والأمان والعزة والكرامة.
ويتعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي استهداف مراكز الإيواء من مدارس وخيام للنازحين في المناطق الانسانية والمحمية وفق القانون الدولي لايقاع أكبر عدد من الضحايا غالبيتهم أطفال ونساء ومسنين.
وسجلت وزارة الصحة في غزة عشرات الآلاف من مبتوري الأطراف جراء الاستهدافات الإسرائيلية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر (2023)، إذ يحتاج مبتوري الأطراف للسفر خارج القطاع لتركيب أطراف صناعية ليستعيد جزء من الحياة التي دفنتها صواريخ إسرائيل دون وجه حق.