عندما أُسدلت خيوط الشمس الذهبية في ساعات المساء اشتعلت النار في قلب أم عدي، وتسلل القلق والارتباك إلى جسدها، ووضعت يدها على رأسها وهي تحاكي نفسها: "وينك يا عدي ليش طولت يا قلبي؟".
رغم دوران عقارب الساعة بسرعة؛ إلا أن الوقت في مكان نزوح أم عدي يمُر ببطءٍ شديد، تجلس أمام باب الفصل في مدرسة النصر وسط مدينة غزة، وكلما تَحرَكَ خيالُ أحدٍ هرعت إلى الساحة علها تحتضن نجلها؛ إلا أنها تعود حائرة تضرب كفاً بكف، وتقول: "الله يسامحك يا حبيبي، ليش تروح على المساعدات".
في السادس والعشرين من يونيو الماضي، خرج عدي الجملة (19 عاما) من مكان نزوحه متجها شمال القطاع، حيث ممر الشاحنات عبر زكيم، على أملٍ بأن يعود بكيس طحين يسد جوع أسرته، في ظل المجاعة القاتلة التي تجتاح القطاع منذ الثالث من مارس الماضي.
عدي واحدٌ من بين 18 شخصا خرجوا مبتسمين يحملون الأمل؛ لسد بطون مُجوعة؛ لكنهم ذهبوا ولم يعودوا حتى الآن، ليحمل كل واحد منهم لقب "مفقود" في ظل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، إذ سجلت وزارة الصحة نحو 12 ألف شخص ضمن قوائم مفقودي الحرب.
لم ترَ "أم عدي" النوم مطلقا ذاك اليوم، فقد تمزق قلبها ودفعت نجلها محمود للبحث عن فلذت كبدها "عدي" بين جثث الشهداء والمصابين الملقاة في أروقة المستشفيات التي تفوح بها رائحة الدم؛ لكن دون جدوى، سألت أصدقائه فكانت الإجابة واحدة، "لا نعلم!".
مضى الليل بآلامه وأوجاعه وبدأت أشعة الشمس تعلن عن نهار جديد، وما زالت الأم الحنونة تراقب ساحة المدرسة، تقول لمراسل "شمس نيوز": "حاولت منع عدي من الذهاب؛ لكن لم يسمع مني، وكانت إجابته "بدي اجيب طحين بدنا ناكل يا أُمي، وأطعمي إخوتي واطفالهم!".
تُقلبُ "أم عدي" صور نجلها عبر الهاتف وهي تروي الحكاية المؤسفة التي نقلت على لسان أحد جيرانه: "لم يتمكن عدي من الحصول على كيس طحين بسبب سرعة الشاحنات والأعداد الضخمة من المجوعين؛ فحاول جمع الحطب بدلا من العودة خالي الوفاض، لمساعدة أمه في اشعال النار وطهي الطعام".
"من بعيد ارتفعت أعمدة الدخان فجأة؛ لتعلن عن تقدم سريع لآليات عسكرية إسرائيلية، انهمرت الرصاصات كالمطر فوق رؤوس المجوعين، حينها وجد عدي نفسه محاصرا، بين جنود الاحتلال ودباباته"، توقفت الأم من روايتها بعدما شهقت من هول الموقف.
وبصوت يكاد يُسمع أكملت حكايتها المؤلمة لمراسلنا: "حينها حُصر عدي انقطع الاتصال معه ولم نعرف عنه شيء، فهل هو أسير؟ أم شهيد؟، لا ندري".
وغاصت في نوبة بكاء شديد، مطلقة صرخة مدوية من قلب أم مكلوم للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية وهي تقول: "أناشد جميع المنظمات والمؤسسات الدولية البحث عن نجلي عدي الجملة سواء في سجون الاحتلال أو في منطقة زكيم، فقد ذهب للحصول على كيس طحين! فلم يطلق النار على أحد، ولم يؤذِ أحد، كل همه إطعام إخوته وأطفالهم المجوعين".
ويشهد قطاع غزة أزمة مجاعة مفتعلة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية حيث تفرض إسرائيل حصارا مشددا على القطاع منذ الثالث من مارس الماضي وتمنع دخول أي نوع من المساعدات الإنسانية ما تسبب بوفاة العشرات من الجوع الشديد.
