في قلب حي الشجاعية شرق مدينة غزة، كان شارع المنصورة شريانًا رئيسيًا يربط الأحياء بالحياة، ويجمع بين التجارة والحركة اليومية، قبل أن تحوله الحرب إلى مشهد خراب لا يشبه تاريخه ولا ذاكرته.
يمتد شارع المنصور كأحد أقدم وأهم الشوارع التجارية والسكنية، يجمع بين عبق التاريخ ونبض الحياة اليومية؛ لكن مساره شهد تحوّلًا مأساويًا مع اندلاع الحرب، إذ انتقل من مشهد الحركة والازدحام إلى ساحة للدمار والركام.
الأطفال كانوا يعبرون الطريق في طريقهم إلى المدارس، والأمهات يتسوقن لاحتياجات منازلهن، والسيارات تتحرك ببطء وسط الزحام.
شارع المنصورة لم يعد مجرد شارع دُمّر، بل أصبح شاهدًا صامتًا على حجم المأساة، ورمزًا لفقدان مدينة كانت تنبض بالحياة وتحولت في لحظة إلى أطلال.
يمتد الشارع اليوم كخط طويل من الركام، حيث تتناثر الحجارة المكسّرة والزجاج المحطم، وتعلو أكوام الحديد الملتوي فوق أنقاض المباني التي كانت مأهولة قبل أيام قليلة فقط.
الهواء ثقيل برائحة الغبار والدخان، وأصوات الجرافات تملأ المكان بينما تحاول إزالة ما تبقى من الحطام.
يقول الحاج فؤاد محمود، الذي يقطن في الشارع منذ أكثر من خمسين عامًا:
"كنت أعرف كل حجر وكل زاوية هنا… اليوم، حتى وأنا واقف وسط الشارع، أشعر أنني في مكان غريب، كأن التاريخ أُمسح في ليلة واحدة".
شارع المنصورة اليوم ليس مجرد طريق مدمر، بل رمز لفقدان جماعي لمدينة كانت تنبض بالحياة، وصارت جرحًا مفتوحًا في ذاكرة سكانها، يروي حكاية حرب تركت بصماتها على كل حجر وزاوية فيه حيث كانت أصوات الباعة وألوان المحال وروائح المخابز تصنع منه لوحة حياة لا تهدأ، أما الآن فالصمت يخيّم، لا يُسمع سوى وقع الأقدام فوق الحجارة المكسّرة وصفير الرياح وهي تمر بين جدرانٍ مثقوبة.
وأضاف محمد محمد هذا الشارع كان قبل الحرب لا ينام وكان يعج بالحركة منذ الصباح الباكر وحتى ساعات الليل المتأخرة وعلى جانبيه تصطف المحال التجارية بمختلف أنواعها من مخابز تنبعث منها رائحة الخبز الطازج.
محلات البقالة والخضار التي تمتلئ بأصوات الباعة ومتاجر الملابس والأدوات المنزلية والكهربائية ومواد البناء التي تجذب المتسوقين من مختلف أحياء غزة.
وكما يضيف فان الأطفال يلهون على الأرصفة، والباعة المتجولون يملأون الشارع بمناداة حماسية لزبائنهم، فيما كانت الحافلات وسيارات الأجرة تشكل شريانًا يربط الشجاعية بمختلف أحياء المدينة.
ويفيد محمد بان اثناء الحرب ولغاية هذه اللحظة فان الأسواق تحولت الى أنقاض، وتغيّر وجه شارع المنصور تمامًا ، كما يفيد بانه عنما وقف أمام منزله المدمر، قائلًا هنا عشت أكثر من ثلاثين عاما اليوم لا أستطيع التعرف على مكاني".
قبل الدمار كان أحد أكثر الشوارع حيوية في غزة. محال الملابس، والمخابز، والمقاهي، وعربات الباعة الجائلين تملأ المكان. سيارات الأجرة والحافلات الصغيرة كانت تصطف على جانبي الطريق، والناس يتنقلون بين المحلات في حركة لا تهدأ.
كان شارع المنصورة أحد أكثر شوارع غزة ازدحامًا، يمتد كخيط نابض بالحياة، تصطف على جانبيه المحال التجارية، والمطاعم الشعبية، والمخابز التي تنبعث منها رائحة الخبز الطازج، وسيارات الأجرة التي لا تهدأ حركتها من الفجر حتى منتصف الليل اليوم، تغيّر المشهد بالكامل.
المباني التي كانت شاهقة تحولت إلى أكوام من الإسمنت والحديد الملتوي، وأكوام من الغبار تعانق السماء. الزجاج المكسور يغطي الأرض، والأبواب الحديدية للمحال ملقاة على جانبي الطريق كأوراق مهملة.
وسط الركام، ترى رجالًا يرفعون الحجارة بأيديهم العارية، ونساءً يلتقطن بقايا أواني المطبخ، وأطفالًا يبحثون بين الأنقاض عن لعبة أو دفتر مدرسي. أصوات الجرافات تختلط بصرخات الناس حين يعثرون على ما تبقى من ذكرياتهم.
قال أبوالعبد حمدان ، تاجر فقد متجره: "هنا كان رزقي ورزق أولادي… في لحظة انتهى كل شيء"
أصوات الباعة استُبدلت بأصوات الانفجارات، ورائحة الخبز الطازج حلت محلها رائحة البارود والدخان.
مع بداية الحرب، تبدّل المشهد. المحال أُغلقت أبوابها، والناس اختفوا من الشارع، وصارت أصوات القصف تتردد في أرجائه بدلًا من أصوات الباعة والمشترين.
الطائرات قصفت أجزاء واسعة من الشارع، فانهارت مبانٍ ومحال تجارية بأكملها، وتحولت الأرصفة إلى أكوام من الحجارة المكسرة.
أحد سكان الحي، ويدعى محمد، يروي: "كنا نختبئ في منازلنا ونسمع صوت الانفجارات يقترب أكثر فأكثر… حتى ضربة واحدة حولت هذا المكان إلى رماد".
رائحة الدخان غطت الأجواء، والغبار كان يحجب الرؤية، فيما كانت سيارات الإسعاف تحاول شق طريقها بصعوبة وسط الركام والحفر.
وفي ذات السياق قال خالد مصطفى صاحب متجر أحذية الذي دُمّره الاحتلال بالكامل: "كنت أفتح متجري من الصباح حتى المساء… اليوم لا أملك حتى مفتاحًا، لأن الباب نفسه لم يعد موجودًا"، بينما يحاول انتشال بقايا بضاعته من تحت الركام.
أما الحاج فؤاد، الذي عاش في الشارع أكثر من نصف قرن، فيضيف: "هنا كانت حياتنا… كل ذكرى لي مرتبطة بهذا المكان. الآن، حتى لو رمموا الشارع، روحه لن تعود كما كانت".
المباني التي كانت تحمل ذكريات البيوت والمكاتب والمقاهي، انهارت لتصير شاهدة صامتة على حجم الخراب. حتى الأرصفة التي شهدت ضحكات الأطفال وخطوات العائدين إلى بيوتهم، تحولت إلى ممرات موحشة محفوفة بالحطام.
شارع المنصور اليوم هو أكثر من مجرد شارع متضرر؛ إنه شهادة حية على حجم المأساة التي عاشها حي الشجاعية، وصورة تختصر مأساة غزة بأكملها. فبين الماضي المليء بالحركة والحياة، والحاضر المثقل بالخراب، تبقى ذاكرة المكان جرحًا مفتوحًا في قلوب سكانه.