يطرق محمد بيده اليمنى بقوة على وتد حديدي، فيما يُزيح بيده الأخرى بعض ما التصق بجبينه من قطرات العرق الممزوجة برمال الشاطئ الساخنة، يردد بصوت متعب: "لم أجد مكانا جنوب القطاع يأويني ويحمي أسرتي؛ فعدت لنصب خيمتي على شاطئ البحر شمالا".
ينهمك محمد غبن (36 عاما) في نصب خيمته على شاطئ البحر، يصرخ على شقيقه: "هيَّا أسرع، هات الزينكو"، كانت حرارة الشمس تغلي مع وصول عقارب الساعة للواحدة ظهرا، يضيف: "لا نملك الوقت، لازم ننهي نصب الخيمة قبل ما يحدث شيء للنساء".
مشهد محمد لتثبيت خيمة تأوي أسرته على شاطئ البحر شمالا، لا يختلف كثيرا عن حال غالبية النازحين الذين عجزوا عن إيجاد مأوى لهم، تزامنا مع تكدس النازحين وغلاء ايجار الأراضي والشقق السكنية جنوبا.
بداية مؤلمة
نزح غبن مع أسرته وعائلته الممتدة (12 فردا) مع استئناف الاحتلال حرب الابادة من بيت لاهيا لمخيم جباليا ومنه إلى منطقة الزرقاء شمال شرق مدينة غزة، وما أن وصلت آليات الاحتلال وعرباته المتفجرة لمنطقة نزوحه حتى اضطر للتفكير مع أسرته للنزوح جنوب القطاع التي يدعي الاحتلال بأنها آمنة.
واجه محمد وأسرته معضلة في التوجه جنوبا ويلفت انتباه مراسلنا إلى أن النزوح يحتاج تكلفة مالية مرتفعة، فأجبرت عائلته لبيع جزء من طعامها مثل الطحين وبعض المعلبات لتوفير 500 شيكل لصاحب التوكتوك -وسيلة نقل-.
دارت عجلات التوكتوك جنوبا، بسرعة جنونية خشية من أن تصيبهم رصاصات طائرات "كواد كابتر"؛ مضت ساعتين في طريق دير البلح وهناك توقفت عجلاته لترتسم الصدمة على وجه عائلته: "لا يوجد متسع لنا".
9 شيكل
نظر محمد لزاوية أخرى من المنطقة وسأل أحد الحضور، "نحن نازحون من الشمال هل تعرف مكانا يأوينا؟، أجابه بكل هدوء ودون تردد: "هناك أرض فارغة؛ لكن متر الأرض بسعر 9 شيكل شهريا!".
ضرب محمد كفا بكف وبدأ يقلب سعر الأرض في عقله ومع والده إذ يقول: "الخيمة الواحدة تحتاج نحو 30 متر مربع إضافة إلى 5 متر مربع للحمام وجدار لحماية الخيمة، علاوة على أن عائلتي تحتاجة 3 خيام وهذا يتطلب توفير (950 شيكل) شهريا".
العودة للشمال
صعق محمد وعائلته من الأسعار، وقرروا النوم في شارع دير البلح فوق عفشهم، وما أن أعلنت خيوط الشمس الذهبية عن يوم جديد حتى قررت العائلة العودة لشمال غزة حيث المنطقة الحمراء وفق جيش الاحتلال.
واجهت عائلة غبن المشكلة الاقتصادية ذاتها فقررت بيع جزء آخر من طعامها: "لا يوجد معنا أموال تكفي سواء للنزوح أو للإيجار أو اقامة خيمة، ولا نريد البقاء في الجنوب حيث الذل والإهانة والقهر، فالموت في شمال غزة أفضل لنا من النزوح".
عادت أسرة غبن لمنطقة الزرقاء شمال شرق مدينة غزة، كان صوت الانفجارات هذه المرة أقوى، وصفير رصاص كواد كابتر كثيفاً، ومركزاً، إضطر ذكور العائلة للخروج بحثا عن مكانٍ أمنٍ غرب المدينة.
البحث عن مكان فارغ
جال الإخوة شاطئ المدينة فلم يجدوا سوى الشمال الغربي -قرب زكيم- يقول محمد: "نشعر بخوف وقلق كبير جدا، لكن ماذا نفعل؟، ذهبنا للجنوب فلم نجد مكانا فارغا، ولا نملك المال لايجار قطعة أرض أو شقة سكنية، لذلك عدنا للشمال سنموت هنا يكفي ذل وإهانة".
من بعيد كان شقيقه حازم يثبت لوح زينكو ويضرب الأرض بالفأس: "هيَّا يا محمد لا نملك الوقت النساء تحت النار لازم ننهي نصب الخيمة قبل ما يخيم الليل"، أمضى محمد حديثه لمراسلنا وهو يقول: "زوجتي وبناتي وأمي ونساء اخوتي في منطقة الزرقاء تحت النار وقبل قليل طلبت الكواد كابتر من جميع السكان النزوح جنوبا، لذلك سأضطر لإنهاء المقابلة لأساعد اخوتي ووالدي".
يردد محمد وهو يعمل تحت اشعة الشمس الحارقة: "العالم يشاهد معاناتنا كأنها حلقة في مسلسل تلفزيوني، واعتقد أن هذه الحلقة ستكون الأخيرة لنا، لأننا فضلنا الموت على النزوح جنوبا".