لا رَيب أنّ العالم يرى اليوم صور أهل غزّة المجوّعين، بأجسادهم النّحيلة وألسنتهم المتشقّقة من العطش. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الصّور هذه باتت اعتياديّة، تبثّها نشرات الأخبارِ مع كلمة "عاجل" بلونٍ أحمرَ لشدّ الانتباه، والّذي لم يعد يُشَدّ منذ مدّةٍ طويلة، ليُختم الخبر كالعادة بالقول "منذ بدء الإبادة في أكتوبر 2024".
منذ بدء الإبادة، وغزّة تنام –إن تركها المحتلّ تغفو لخمس دقائق متتابعة بدون قصف- وتستيقظ على أصواتٍ الصّواريخ، وأطفالها أجسادهم تصغرهم بسنوات من شدّة الجوع. منذ بدء الإبادة وغزّة تتعرّض لأبشع مذبحةٍ على مرّ التّاريخ، والعالم ينظر ويتأمّل.. "ماذا سيفعل المحتلّ أكثر ممّا فعله"؟
ولا يكتفي المحتلّ بالقتل المباشر أو تقطيع الأشلاء أو تفريق العائلات أو تهجيرهم قسرًا، ولا حتى يكتفي بتهديد كامل مدينة غزّة، ولا حتّى بمنع التّجوّل ولا بحرقِ الخيام، بل يستخدم أفظع أساليب القتل البطيء وسلب الإرادة: التّجويع.
نعم، أعرف أنّ الحديث عن التّجويع في غزّة بات اليوم شبه "اعتياديّ"، أو حتّى لم يعد أحدٌ يستغرب الحديث عنه، يعني، بات اسم غزّة ملاصقًا للجوع والعطش والحزن والمرض، هكذا يريد الغرب الاستعماريّ أن يزرع في أذهاننا.
نعم، أعرف أنّ العالم بأكمله يعرف أنّ غزّة مجوَّعة، وأنّ الكتابة عن هذا الأمر ليست بجديدة، وأنّ الدّمع المنهمر من عينيّ طفلٍ كلّ يومٍ بسبب اشتهائه لـ "شوكولا" أو "صحن أرزّ"، يراها العالم بأكمله، ومع ذلك، أكتب اليوم، وكأنّه اليوم الأوّل، عن التّجويع في غزّة.
تكرار المشهد لا يعني خفّة وطأته على المعانينَ منه تحت الإبادة، بل إنّ التّجويع بات اليوم أقسى وأثقلَ وأفظع بطريقةٍ لا يمكن لأحدٍ أن يتخيّلها، ولكنّ غزّة تعيشها كلّ يوم.
يريد الغرب منّا أن تبقى غزّة ضعيفةً مهزومة، وأن نحكي عن الاستسلام والخضوع، لذا يسعى المحتلّ بدعمٍ أميركيّ لتجويع الغزيين حتّى "يستجدوه" ليعطيهم "قطراتٍ" من المساعدات، ولكنّ الغزيين يفاجئونه دائمًا بالصّمود، إذ إنّ حكوماتٍ عربيّة ملاصقة لفلسطين، لا ترسل للغزّيّ الجائع جزءًا من موائدها، فلا يبقى له خيارٌ سوى الصّمود. يريد الغرب أن تبقى غزّة ملاصقةً للضّعف والقهر، ونحن نريد من هذا القهر أن يصيرَ مقاومة.
بقلم: هبة دهيني
