يا له من صباحٍ مختلف عن كل الصباحات التي مرَّت على غزة منذ نحو عامين. صباح محمَّلٍ بكلّ هذا التباين من المشاعر: فرحٌ وبهجة تنتشران بين أهل غزة الموزعين بين أنقاض بيوتهم والخيام، ودموعٌ تثور من صدورٍ لم تتركها الحرب تُنفِسْ حزناً أو فجيعةً بالقدر الكافي.
بعد ليالٍ طويلٍة من الخوف والرعب، جاء خبر وقف مؤقتٍ في آلة القتل — هُدنةٌ قُدّرت لها أن تمنح الناس دقائقً ربما نادرةً من راحةٍ، تسمح للغزيين لمواساة بعضهم بعضاً على فقدٍ لا يُحصى. احتفلوا مساءً بعدما رصدوا سبعة عشر نفسًا أُزهقت قبل أن يُسمح للحزن بأن يأخذ مجراه. لكن الفرح هنا — مهما بدا حاضراً — يظل مشوباً بشكٍّ وحذر: العدوُّ غدارٌ كعادته، والسلام بعيدٌ إن لم يكن وهْماً يُقاس باسم الهدنة.
ولأن التاريخ علّم أهل غزة كثيراً، فإنّ قرار المقاومة بألا يكون نزع السلاح بنداً قابلاً للتفريط ليس غلواً ولا نزوةً عابرة، بل هو قناعةٌ متجذرةٌ بُنيت على تجاربٍ مريرة: من يفتح باب خلو السلاح في مواجهة آلة احتلالٍ لا تعرف حدود أطماعها، سيُسلَّم مصير شعبٍ كاملٍ للنهب والقتل.
المقاومة — في هذا السياق — لا تدافع فقط عن سلاحٍ مادي، بل تدافع عن قدرةٍ على الوجود، عن كرامةٍ يحاول العدو أنتزاعها، وعن حدٍّ لا يُسمح بتجاوزه في مواجهة من لا يرى في الآخر إلا هدفاً للاجتثاث والتغيير الديموغرافي.
غزة الصغيرة جغرافياً، الكبيرة في ثباتها، ستظل دوماً شاهدةً على مفارقات التاريخ: جزء من شعب محاصر منذ نحو 18 عاماً، استطاع الصمود والتصدّى لأعتىٍ قوى إستعمارية، رأس حربتها كيان صهيوني مجرم، ولم يستسلم. هذا الثبات ليس حدثا لحظويا، بل هو سجلٌّ حافل من مواقف وأفعال، ومواجهات، تُدرّس للأجيال: كيف استطاع هذا الجزء المحاصر أن يواجه حرب كونية، استخدم فيها أحدث أنواع الأسلحة القاتلة والتدميرية والفتاكة وسلاح التجويع.. كيف استطاع أن يصمد ويحول أهداف العدو الى أوهام؟.
ومن المؤلم أن يسجل التاريخ أن أمة تقاعست عن دعم جزء منها، لا بل ان البعض منها ساند العدو ومد له يد العون بالمال والسلاح والدعم الاقتصادي.. علماً أن المعركة التي يخوضها الغزيون، ليست معركتهم وحدهم، بخاصة وأن العدو لا يخفي أطماعه بالأرض العربية وثرواتها، ويعلن نهاراً وجهاراً خرائط التوسع التي تتجاوز الأرض الفلسطينية شمالاً وشرقاً وجنوباً، من مصر الى السعودية الى سوريا ولبنان والعراق... الخ.
لكن رغم ذلك كله، يبقى الأمل صوتاً يخرج من بين الركام: أملٌ بأن تنهض الضمائر، لتُجابَه المجازر بكلمةٍ واضحةٍ وصريحةٍ من شعوبٍ وحكوماتٍ تدرك أنّ العدالة لا تُبنى على الصمت. أملٌ بأن تُحوَّل هذه اللحظات المؤلمة إلى طاقةٍ تُعيد ترتيب الأولويات، وتُعيد للبوصلةِ مسارها الصحيح: حريةٌ، كرامةٌ، وإنصافٌ للشعب الفلسطيني.
صباح غزة هذا ليس انفصالاً بين الفرح والحزن؛ بل هو تلاقٍ صارخٌ بينهما. فرحٌ على وقفةٍ إنسانيةٍ مؤقتةٍ تمنح الناس القدرة على التنفس، وحزنٌ على دمٍ وهدرٍ وبيوتٍ سُويت بالأرض. من يفهم هذا الصباح سيعلم أنّ المعادلة بسيطة ولكنها صعبة: لا أمان ولا استقرار ولا تقدم ولا وحدة في ظلّ الاحتلال.. والحرية لا تُستعاد إلا بالقوة وبكل أشكال المقاومة.
ستبقى غزة، الصغيرة بجغرافيتها، والكبيرة بأهلها ومقاومتها، وبإراتها التي تأبى الإنكسار درسا وحكايةً تُروى للأجيال — درساً لا ينسى عن عشبةٍ نبتت في صخر المعاناة فلم تمت.
