أصدر مفتي محافظة خان يونس وعضو مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين، الشيخ إحسان إبراهيم عاشور، فتوى شرعية حول حكم تسعير البضائع في الظروف الطارئة، دعا فيها إلى وجوب ضبط الأسعار في ظل الحرب الجارية والأوضاع الاقتصادية القاسية، حمايةً للمجتمع من الجشع والاحتكار، ومنعاً لتسلط الأقوياء على الضعفاء.
وأوضح المفتي عاشور، أن تحريم التسعير الوارد في الأحاديث النبوية خاصٌّ بالأحوال الطبيعية المستقرة، أما في أوقات الحرب والأزمات فـ«لوليّ الأمر أن يتدخل لضبط السوق ومنع الظلم».
وأكد أن ولاة الأمور والعاملين على ضبط الأسواق يقومون بواجب جهادي ووطني لحماية الجبهة الداخلية من الانهيار، وأن من يسهم في حفظ مصالح الناس والحد من استغلال حاجتهم فهو في ثغرٍ من ثغور الجهاد.
كما شدّد على وجوب تقوى الله على المزارعين والتجار، ودعاهم إلى الرحمة بالشعب المنكوب وتيسير السلع على الفقراء والمحتاجين.
وإليكم نص الفتوى كاملاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم تسعير البضائع في الظروف الطارئة
السؤال/ يتورَّعُ بعض الإخوة العاملين في مجال ضبط الأسواق عن الوقوع في إثم التسعير المنهي عنه شرعاً، كما يتذرَّعُ بعض المزارعين والتجار بحرمة التسعير؛ كي لا يلتزموا بما تحدده جهات الاختصاص من الأسعار. فما هو توجيهكم لهم في أتون هذه الحرب الغاشمة؟ .
الجواب/ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأقول، وبالله التوفيق:
( أولاً ) ورد النهي عن تسعير البضائع في أسواق المسلمين، ومن ذلك ما روى الترمذي وغيره عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ ).
ووجه تحريم التسعير أن الناس مُسَلَّطون على أموالهم، والتسعيرُ حَجْرٌ عليهم، والإمامُ مأمورٌ برعاية مصالح المسلمين، وليس نَظَرُه في مصلحة المشتري بِرُخص الثمن بأولى من نَظَرِهِ في مصلحة البائع برَفعِ الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم؛ لكن على الإمام أن يأمُرَهم بالإنصاف، والشفقة، والرحمة بالخلق .
( ثانياً ) إنَّ هذا النهي عن التسعير خاص بأحوال الناس العادية، وفي ظروف حياتهم الطبيعية، الخالية من المؤثرات الطارئة، والأحوال القاهرة، التي لا يظهر فيها ظلمُ التجار، ولا غلاءُ الأسعار، فتكونُ الأسعارُ عاديةً، وأحوالُ السوق مستقرةً.
أما في الأحوال الطارئة، وظروف الحرب القاسية، وما صاحَبَها من خَلَلٍ مُصطَنَعٍ في الأسواق، واضطرابٍ في الأسعار، نشأ عن تَغَوُّلِ التجار وأربابِ السلع، وركوبِهم موجةَ الجشعِ، والاحتكارِ، ومُغالاةِ الأسعار، ما أدى إلى نُدرةِ الطعام والشراب والدواء وسائر مستلزمات الحياة، وحُلولِ المجاعة بالناس، فإن السوق والحالةُ هذه يحتاج إلى ضبطٍ حكيمٍ، يراعي المصلحة العامة، ويمنعُ التضييق على الناس في معيشتهم، خاصةً مع قِلَّةِ الدَّخل، وشُحِّ الأرزاق؛ رفعاً للضرر عنهم، ومنعاً لتسلُّط القوي على الضعيف، واستغلالِ حاجة المُعوَزين، والتضييق على عباد الله المحرومين.
( ثالثاً ) وعليه؛ فإنه يجب على وُلاةِ الأمر، ومَنْ يُساعِدُهم وجوباً شرعياً أن يضبِطوا أسعارَ السلع في السوق؛ منعاً للظلم، وإنصافاً للشعب المكلوم، على أن يكون ذلك بمشورة أهل الرأي والنظر والخبرة، وإنْ تقاعسوا عن ذلك أثِموا، ووَجَبَتْ مُحاسَبَتُهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج 28 ص 76: ( يجب التسعير عليهم، بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل، بلا تردُّدٍ عن أحد من العلماء ) .
( رابعاً ) وحيث إنَّه لا ضَرَرَ ولا ضِرار، وإنَّ الضَّررَ لا يُزالُ بضَرَرٍ آخر، فإنَّ مِنْ مقتضى العدل والإنصاف في هذه المُهمة مراعاةَ أنَّ السلع في السوق نوعان:
( أ ) سِلَعٌ مُستوردةٌ، وهي موجودةٌ في مخازن التجار قبل إغلاق المعابر، أو تدخل إلى مخازنهم بعد إعلان وقف إطلاق النار، فهذه لا بد من إجبار التجار المستورِدين، الذي يحتكرونها في مخازنهم، ويَحبِسونها عن الناس؛ إلا بأسعار خيالية، لا طاقة لهم بها، على إخراجها للناس، وإلزامهم ببيعها بالأسعار المعقولة المناسبة؛ لأنها موجودة عندهم قبل إغلاق المعابر، أو لا زالت تدخل إليهم حالياً، ولا مبرر لرفع أسعارها على الناس مطلقاً؛ لأنهم قصدوا أكلَ أموال الناس بالباطل، والتضييق عليهم .
ولا يجوز الاقتصار على متابعة صغار التجار، وباعة البسطات الذين يأخذونها منهم بأسعار مضاعفة؛ بل لا بد من متابعة كبار التجار؛ فإنهم مصدرُ السلع والبضائع، والبُؤَرُ الرئيسة التي تعمل على الاحتكار ورفع الأسعار.
( ب ) سِلَعٌ يتم إنتاجها محلياً، وأشهرها المنتجات الزراعية؛ كالخضروات.
فهذه السلع أيضاً يجب على ولي الأمر منعُ المغالاة في أسعارها، ويجب عليه تحديد أسعار عادلة ترفُقُ بالناس، وتراعي جهد المزارعين، ويجب على المزارعين الالتزام بالأسعار المحددة من ولي الأمر.
ولا يجوز الاقتصار في ضبط أسعار هذه السلع على المزارعين وحدهم، ولا على الباعة في الأسواق فقط؛ بل لا بد من ملاحقة من يبيعون أدوات الزراعة، ومستلزمات الري، والبذور، والسماد، والأدوية، ونحو ذلك للمزارعين؛ لأنهم عوامل مُهِمَّة تُسهِمُ بشكل كبير في رفع تكلفة الإنتاج على المزروعات، ما يؤدي ضرورةً إلى رفع أسعار تلك المنتجات على المستهلك.
( خامساً ) ولْيَعلَمْ ولاةُ الأمر، ومساعِدوهم أنَّهم مجاهدون في سبيل الله، ومرابطون على ثغر عظيم من ثغور المسلمين، يتمثل في حفظ الجبهة الداخلية من الانهيار، والعمل على ثباتها وصمودها، من أجل إفشال مخططات العدو الرامية إلى ضرب هذه الجبهة المهمة؛ فمن قضى منهم في هذه المهام محتسباً فقد مضى إلى الله شهيداً، ومن أُصِيب محتسباً كانت إصابته في سبيل الله، ومن سَلِمَ فاز بأجر الجهاد والرباط.
( سادساً) يجب على التجار والمزارعين أن يتقوا الله في عملهم وكسبهم، وأن يرحموا أبناء شعبهم؛ فالراحمون يرحمهم الرحمن، وأن يتعاونوا ليجعلوا أسعار البضائع والسلع في متناول الجميع، وأن يُفَوِّتوا الفرصة على عدونا، ابتغاء وجه الله تعالى، وطلباً لِمًرضاته.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويفرج كربنا، ويحفظ شعبنا.
وصلى الله على سيدنا محمد، وآله، وصحبه، وسلم.
✍️ الشيخ/ إحسان إبراهيم عاشور
مفتي محافظة خان يونس
عضو مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين