يقف الشاب محمود هنية على أطلال ما تبقى من خمس عمارات سكنية، يلتفت بحسرة يُمنة ويُسرة صوب مساحة واسعة من الدمار الذي خلفه قصف إسرائيلي في حي اليرموك بمدينة غزة، يرفع أكفه إلى السماء ليقرأ الفاتحة، ويمسح ما سقط من دموع على وجنتيه، وهو يردد بألم وشوق يحرق قلبه: "نفسي أدفن طفلي البكر وزوجتي وأقربائي في مقبرة تليق بهم كموتى مسلمين وأقف أمام شاهد القبر أحدثهم عما فعلته حرب الإبادة في قطاع غزة".
استشهدت عائلة هنية في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢٣ ، عندما ألقت طائرات الاحتلال الإسرائيلي نحو ٥ قنابل تزن أطنان من المتفجرات، لتُبيد مئات العائلات المدنية جُلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، بعدما ابتلعت الأرض ٥ عمارات سكنية ودفنت أحلام وطموحات ومستقبل العائلات الفلسطينية.
وتُمارس قوات الاحتلال ضغطا مكثفا على المقاومة الفلسطينية للإسراع في انتشال جثامين الأسرى الإسرائيليين من الانفاق داخل قطاع غزة، وهو ما ساهم بإدخال معدات وثقيلة بشكل عاجل في مناطق الخط الأصفر للبحث عن الجثامين فقط.
وكانت "تل أبيب" قد سمحت بإدخال معدات ثقيلة إضافية من مصر إلى غزة، لتكثيف عمليات البحث عن جثث الأسرى الإسرائيليين، في وقت تمنع إدخال أي معدات ثقيلة لانتشال جثامين الفلسطينيين المدنيين تحت الركام.
ووفقا لما أعلنته اللجنة الوطنية لشؤون المفقودين في حرب غزة اليوم الخميس أن أكثر من 10 آلاف شهيد لا يزالون مدفونين تحت الأنقاض، كما تشير تقديرات حديثة للأمم المتحدة إلى أن هناك 11 ألف مفقود في غزة معظمهم نساء وأطفال، و17 ألف إلى 21 ألف طفل فلسطيني في عداد المفقودين، بحسب منظمة "أنقذوا الأطفال".
نفسي ازور قبر زوجتي وابني
واختزل هنية مطالبه بالعثور على رفات زوجته وطفله عبيدة (سنة وست أشهر) و ٣٧ من أنسبائه؛ لدفنهم في قبور معروفة، لزيارتهم في الأعياد والمناسبات وشهر رمضان، كغيره من أبناء العالم، مع إشارته إلى أن مشاهد إدخال المعدات الثقيلة للبحث فقط عن رفات الجنود الإسرائيليين القتلة في قطاع غزة أصابته بحالة من الغضب والحزن.
ولم يتوقع هنية أن يثور العالم أجمع للضغط على المقاومة للبحث عن رفات ٢٨ جنديًا إسرائيليًا من قتلة الأطفال والنساء والمحتلين، بينما يتغاضى عن انتشال رفات الألاف من أبناء فلسطين تحت الركام، يقول محمود لمراسل "شممر، نيوز ": "العالم ينظر على أبنائنا كأنهم رماد ليس لهم قيمة في نظرهم، والعالم اليوم يُكيل بمكيالين ويقف إلى جانب الجلاد ضد الضحية".
وعبر الشاب محمود عن أمنيته بأن تستجيب الدول العربية والإسلامية والأوروبية التي تتغنى بالقيم الإنسانية والحقوقية لمطالبات عائلة المفقودين تحت الركام، لإدخال المعدات الثقيلة لانتشال الجثامين ودفنهم بما يليق بالكرامة الإنسانية.
ازدواجية المعاير
لا تختلف مطالب محمود هنية عن الشابة شهد الشرفا التي تفقد أحد أقريائها تحت الركام وتتمنى أن يتم انتشاله ودفنه في مقابر معروفة كما يجري مع رفات جنود الاحتلال الإسرائيلي قائلة: "أقف فوق المنازل المدمرة والتي تحتوي تحت ركامها عشرات الضحية دون أن يسمع لهم أنين، وفي الجانب الأخر يستعيد الاحتلال رفات جنوده القتلى في ازدواجية كبيرة تفضح ممارسات العالم الظالم".
وتطالب الشرفا كما سابقها هنية بضرورة أن يتحرك العالم لإدخال المعدات الثقيلة لانتشال رفات آلاف الشهداء تحت الركام، قائلة: "غزة تحتاج لمعدات تقيلة من جرافات وشاحنات ليتم استخراج جثامين أبنائنا، وعلى العالم أجمع التحرك ليستعيد جزء من إنسانيته التي فقدها خلال عامين من الإبادة الإسرائيلية".
دافعوا عن الكرامة والإنسانية
وفي السياق ذاته أكد والد الشهداء والجرحى الحاج أحمد أبو عاصي، أن القضية عندما تتعلق بحقوق الفلسطينيين وإنسانيتهم وكرامتهم فإن العالم يُكيل بمكيالين، وعندما تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي فإن العالم يغضب ويدشن حملة مناصرة كبرى للمحتلين القتلة".
ووجه الحاج أبو عاضي عبر "شمس نيوز" رسالة للعالم العربي والإسلامي والعالمي بالتحرك والوقوف إلى جانب الضحايا والمستضعفين في الأرض، من أجل الدفاع عن الكرامة والإنسائية التي يتغنى بها أمام العالم، مع إشارته إلى أن الضحايا الفلسطينيين تحت ركام المنازل التي دمرها جيش الاحتلال الإسرائيلي هي أمانة في رقاب المسلمين والعرب وكل من ناصر ودافع عن الإنسانية والكرامة.
من جهته أوضح المتحدث باسم اللجنة الوطنية لشؤون المفقودين في حرب الإبادة على غزة، علاء الدين العكلوك، أن القطاع "تحوّل إلى أكبر تجمع للمقابر في العالم"، مشيراً إلى أن "نحو 10 آلاف فلسطيني ما زالوا مفقودين تحت الركام، بعدما دفنوا في منازلهم التي تحولت إلى مقابر جماعية دون أن تصان لهم كرامتهم الأخيرة أو تُنتشل أجسادهم".
واستنكر العكلوك غياب الدور الفاعل للمنظمات الدولية والهيئات الإنسانية، خصوصاً تلك المعنية بملف المفقودين".
وأكد أن "ما يجري في غزة يشكل كارثة إنسانية متفاقمة، تتطلب تحركاً عاجلاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
وأشار إلى أن اللجنة تتابع "بألم شديد ازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع جثامين الضحايا الفلسطينيين، مقارنة بالاهتمام المفرط الذي أبدته جهات مختلفة تجاه استخراج جثامين الأسرى الإسرائيليين".
واعتبر أن ذلك "يعكس ظلماً فادحاً وتحيزاً واضحاً ضد ضحايا غزة"، داعيا العكلوك السلطة إلى "تفعيل كل القنوات السياسية والقانونية واللوجستية للضغط من أجل متابعة ملف المفقودين ورعاية شؤون عائلاتهم".
وارتفعت الحصيلة الإجمالية لحرب الإبادة الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى 68,872 شهيداً و170,677 مصاباً، غالبيتهم من النساء والأطفال.