مع أول خيوط الصباح في مخيم جباليا، يخرج الشاب مصعب الشريف (19 عامًا) حاملًا كاميرته بخفةٍ لا تشبه خفة الخوف، بل خفة المتمرس على الخطر. يتسلل بين الركام متتبعًا أصوات الحياة التي تتشبث بالبقاء، كأنه يبحث عن زاويةٍ للصورة تحفظ ما تبقّى من ملامح المكان المدمر.
مصعب، أحد المصورين الشباب الذين وثّقوا الحرب الأخيرة على غزة، لا يرى في الكاميرا مجرد أداة، بل "مسؤولية".
يقول بصوتٍ هادئٍ وهو يعدّل عدسته: "الكاميرا مش مهنة عندي... هي واجب. الصورة أحيانًا بتكون الشاهد الوحيد لما العالم بيصم أذانه."
البداية من جباليا
ولد مصعب في بيئةٍ اعتادت الحرب كما يعتاد الناس الفصول. منذ طفولته كان يتابع تغطيات الصحفيين ويقلدهم بكاميرا مكسورة، كان يتابع التغطيات الشعبية والوطنية ويحلم أن يكون جزء منها: "كنت أتمنى أكون معهم... أوصل صوت الناس، أفرجي العالم شو بيصير فعلاً بغزة."
من الهواية إلى الميدان
بدء مشواره في السن السابع عشر، ومع اندلاع "طوفان الأقصى"، تحول حلمه إلى مهمة. التحق بعمه المراسل الشهيد أنس الشريف، وتعلم منه أن الصورة لا تُلتقط فقط، بل تُنتَزَع من قلب الخطر.
يقول مصعب متذكرًا تلك الأيام: "كنت أرافق عمي في كل تغطية... بعد استشهاده حسّيت إن الكاميرا صارت أمانة، لازم أكمل اللي بدأه."
في إحدى تغطياته في حي الصفطاوي، أصيب صديقه فادي بجانبه بينما كان يصور. يتوقف قليلًا، ثم يضيف بثباتٍ يشبه الصمت الذي يسبق الانفجار: "كانت أصعب لحظة مرت علي كمصور حين أُطلق علينا النار ونحن نؤدي واجبنا الإنساني".
الصورة كوثيقة لا كذكرى
" الإعلام في غزة ليس مهنة موسمية"، يقولها بثقٍة تفوق عمره، هي قضية ممتدة من النكبة لليوم.. لأن الكلمة والصورة هما خط الدفاع الأخير عن الحقيقة.
مع كل يومٍ جديد، ينظّف عدسته من غبار الحرب، وينزل إلى الميدان وكأنه يذهب إلى امتحان البقاء. لا يملك ضمانًا للعودة، لكن ما يملكه يكفي: إيمان بأن الصورة قد تُحدث أثرًا أكبر من ألف كلمة.
قدوة لجيل جديد
كما كان عمّه أنس الشريف قدوة له، أصبح مصعب اليوم مصدر إلهامٍ لمصورين شباب يتعلمون منه أن الصحافة في غزة ليست مهنة، بل التزام تجاه الحقيقة: "حلمي أظل أصور بعد التخرج، أشتغل لخدمة وطني وعدستي.. وربنا يستخدمني ولا يستبدلني."
العودة إلى المخيم
مع نهاية اليوم، يعود مصعب إلى مخيمه حاملاً كاميرته كما تُحمل الأمانة. يراجع صوره، يختار منها ما يصلح للنشر، وما يصلح للبقاء في الذاكرة. وبينما يطفئ أضواء جهازه، يهمس لنفسه: "إذا استُشهدنا، تبقى الصورة شاهدة، والرسالة حيّة."
هكذا يحيا مصعب الشريف، فتى الكاميرا الذي يطارد الحقيقة بين الركام، ويكتب بعدسته رواية غزة التي لا تموت، غزة التي تُقاتل بالضوء، وتقاوم بالصورة، وتؤمن أن العدسة الصادقة لا تُقهر.
