ترك برس
مثلما كان وصول حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 واستمراره في قيادة تركيا على مدار 13 سنة عاملا مهما في ظهور توازنات محلية واقليمية جديدة ساهمت بشكل كبير في تغيير الخارطة الجيوستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية وإحداث زلزال هائل في خارطة الوعي السياسي لدى النخبة السياسية العربية والدولية لما تميزت به التجربة التركية على مدار هذه الفترة من نجاحات اقتصادية وسياسية حولت تركيا من دولة ممر يعبر عليه الغزاة الى لاعب أساسي في المعادلة الاقليمية والدولية، فإن نتائج الانتخابات الأخيرة أحدثت أيضا هزة كبرى سواء كان على المستوى المحلي أو الاقليمي لما ستؤول اليه الأمور حول مستقبل المشهد السياسي الداخلي في تركيا، وظهور توازنات محلية جديدة قد تصبح عامل تحكم في نسق سير مشروع تركيا الكبرى التي روج لها حزب العدالة والتنمية محليا واقليما ودوليا، وعمل على مدار سنوات طويلة من أجل ترسيخ أهم أسسها، ودخل في تحالفات استراتيجية من أجل صياغة الخارطة الجيواستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية ككل.
إذن فكيف يمكن أن نقرأ مستقبل الخارطة الجيوستراتيجية للمنطقة في المرحلة القادمة؟
ملامح المشهد الجيوستراتيجي في المنطقة في المرحلة القادمة:
في الحقيقة الإجابة عن السؤال السابق يرتبط فعلا بطبيعة المشهد السياسي في تركيا، ومدى قدرة حزب العدالة والتنمية على الخروج من هذا النفق الجديد الذي قد يعيد تركيا الى حالة الدولة الممر أي إلى وضع تركيا ما قبل انتخابات 2002.
حزب العدالة والتنمية الذي تبنى خيارات استراتيجية على المستوى الاقليمي خصوصا فيما يتصل بثورات الربيع العربي، ووقوفه داعما لجملة من القضايا العربية والاسلامية جعل من تركيا القوة الاقليمية الأقوى تأثيرا على مستوى الخارطة الجيوستراتيجة من خلال المحور الاستراتجي الذي شكلته مع قطر ومع السعودية في الآونة الأخيرة ضد محور آخر تتزعمه الإمارات ومصر واسرائيل وبعض الدول الغربية.
ولئن نجحت تركيا في الفترة السابقة في إحداث تصدع في بنية المحور المعادي لها من خلال تحييد السعودية ولو جزئيا إلا أن الوضع الجديد الذي وصلت اليه تركيا بعد إجراء الانتخابات سيستفيد منه المحور الآخر ليس فقط في إحداث تصدع في محور تركيا قطر السعودية، بل أيضا في إحداث تصدع داخل تركيا نفسها باعتبارها الدولة المتزعمة للمحور.
سيعمل المحور المعادي على استثمار الظروف السياسية الجديدة وذلك عبر الدخول في تحالفات مع بعض الأحزاب التركية المنافسة لحزب العدالة والتنمية في البرلمان القادم وسيحاولون دفع الأحزاب الثلاثة في البرلمان التركي من تشكيل حكومة ائتلافية و إخراج حزب العدالة والتنمية من الحكومة، وحصره في زاوية المعارضة والاستيلاء على السلطة، ومن ثم يتم ضرب المحور الاستراتيجي التركي القطري السعودي لصالح المحور الاماراتي المصري الاسرائيلي.
جدير بالذكر أن من بين أسباب تراجع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة يعود بالأساس إلى تدخل المنظومة الاقليمية والدولية إعلاميا وماديا لإضعاف حزب العدالة والتنمية الذي عمل منذ تأسيسه على فكرة بناء مشروع تركيا الكبرى. فقد حاول المحور المعادي لمحور تركيا قطر أن يدعم أحزاب المعارضة التركية باعتبارها أحزاب تلتقي معها على نفس الأرضية وهي عداوة حزب العدالة والتنمية وفي شخص أردوغان.
هذه المحاولات الغاية منها ليس انقاذ المسار الديمقراطي في تركيا كما يزعمون، وتخليص الشعب من ديكتاورية أردوغان إنما كان الهدف منه أساسا توجيه ضربة قاصمة لحزب العدالة والتنمية والى شخص أردوغان، ومن ثم إضعاف المحور التركي القطري السعودي حتى يسهل إعادة صياغة المنطقة وفق خارطة جيوستراتيجية جديدة تخدم المصالح الغربية والصهيونية والأنظمة العربية الديكتاتورية .
إن المنطقة ستشهد حالة تغير جديدة في بنية التوازنات الاقليمية وفي شكل المحاور الاستراتيجية القادمة ، وإذا لم ينجح حزب العدالة والتنمية في إعادة تموقعه من جديد على الخارطة السياسية الجديدة في تركيا إما عن طريق حكومة ائتلافية قوية أو عن طريق الفوز في انتخابات مبكرة فإن تركيا سيتم تحييدها تماما، وذلك عبر إشغالها بإحداث أزمة سياسية داخلية وباحتدام التجاذبات بين القوى السياسية المحلية.
إن تحديد ملامح هذه الخارطة الجيوستراتيجية مرتبط بطبيعة التوازنات الجديدة الطارئة على كل محور من المحاور الاستراتيجية المتصارعة. فكما أنه حصل تغيير في السعودية بعد وفاة الملك عبد الله فقد يحصل تغير أيضا في الموقف التركي بعد هذه الانتخابات، كما أنه قد يحدث أي تغيير في مصر أو في أي دولة من دول المحاور المتنافسة مما يؤثر بشكل كبير على التوازنات وعلى طبيعة الخارطة الجيوستراتيجية داخل المنطقة.
الانتخابات التركية وانعكاساتها على مسار الثورات العربية:
لقد حملت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية على عاتقها مسؤولية مناصرة القضايا العربية والوقوف الى صف المشروع التغييري العربي الذي انطلق مع ثورات الربيع العربي من تونس ولتدخل المنطقة العربية بأكملها في منزلقات خطيرة باتت تهدد كيان المنطقة برمتها بما فيها تركيا.
بعيد الانتخابات التركية وصدمة النتائج المعلن عنها بدأ الشارع العربي خصوصا في أوساط اللاجئين السوريين في تركيا يتساءلون عن مصيرهم في المرحلة القادمة. وبدأ الخوف يدب في كثير منهم من أن يتم طرد السوريين من تركيا أو إعادتهم الى سوريا أي الى جحيم القتل الاسدي؟
وهل ستستمر تركيا في دعم الثورة المسلحة ضد نظام بشار أم أنها ستتوقف عن دعمهم؟ كما طرحت أسئلة أخرى تتصل بمصير المصريين واليمنيين وحتى الليبيين؟ كيف سيكون وضع القوى الثورية التغييرية في المنطقة العربية من تونس الى سوريا ؟ ومامستقبل القضية الفلسطينية المركزية، وهل ستعود العلاقات التركية الصهيونية كما هي عليه قبل سنة 2002 بعد أن كانت متوترة بين الطرفين؟
يجد بنا التذكير أن من بين الشروط التي اشترطها حزب العدالة والتنمية للدخول مع الأحزاب في حكومة أن يتم الاتفاق على مثل هذه الملفات التي تمس سياسة تركيا الخارجية وأن لا يقع فيها أي اختلال قد يؤثر على استقرار تركيا او قد يعرض المنطقة الى التهديد بما فيها تركيا.
الملف السوري:
يبدو من خلال تصريحات داوود أوغلو الأخيرة أنه طمأن السوريين، وأكد أن تركيا ستظل تقف الى جانب المظلومين، ولن تساند أي نظام قمعي، وأن حزب العدالة حزب مسؤول عن قراراته، ولن يتراجع مهما كانت الظروف التي استجدت في تركيا أو حتى في المنطقة. ويفهم من هذا أن دعم المعارضة المسلحة سيكون من بين الشروط التي سيفرضها حزب العدالة والتنمية في أي حكومة ائتلافية قادمة.
ولعل الملف السوري سيكون هو العقبة الكأداء للحيلولة دون حصول أي حكومة ائتلافية وذلك لاختلاف وجهات النظر تجاه المسألة السورية خصوصا مع حزب الشعب الجمهوري الذي وعد رئيسه كمال قليچدار أوغلو في حملته الانتخابية بإعادة السوريين الى سوريا في حالة فوزه بالانتخابات.
الأيام القادمة ستشهد تغيرا في المواقف الداخلية، وسيطرح هذا الملف من جديد على طاولة النقاش، وسيتم تداوله بشكل كبير في وسائل الاعلام، وقد يتولى رئيس الجمهورية نفسه هذا الملف باعتبار أنه يدخل ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية في تحديد مسار السياسة الخارجية التركية والمصادقة عليها، أو يطرح على مجلس الشعب إذا لم يتم الوصول الى أرضية مشتركة بين هذه الأحزاب حول المسألة السورية.
الملف المصري وموقف تركيا:
يبدو أن هناك اتفاقا بين أغلب الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان القادم حول مسألة رفض "الإنقلاب" العسكري الذي حصل في مصر، ويعتبرونه ضربة قاصمة للمسار الديمقراطي في مصر. وقد يعود هذا الاتفاق الى التجربة المريرة التي شهدتها تركيا بسبب الانقلابات العسكرية التي وقعت منذ سنة 1960 الى حدود سنة1997.
النتيجة أننا لن نلمح تغيرا كبيرا في المواقف الرافضة للانقلاب في مصر، ولكن قد يحصل تقارب مع السلطات القائمة في مصر وإعادة تحسين العلاقات بين البلدين ولو جزئيا، لا سيما أن العلاقات الديبلوماسية بينهما وصلت الى درجة من التوتر والانسداد التام والاتهامات المتبادلة.
ملف القضية الفلسطينية:
تعد القضية الفلسطينية منذ مجيء حزب العدالة والتنمية الى السلطة من أهم ورقات الضغط التي استخدمتها تركيا خارج حدودها ، وقد قدمت تركيا عدة شهداء في سعي منها لفك الحصار المفروض على غزة من قبل الصهاينة، الأمر الذي أوصل العلاقات التركية الاسرائيلية الى التوتر الشديد ، والى الفتور بل وفي التخفيض الديبلوماسي بينهما.
نتائج الانتخابات الأخيرة أسعدت الكيان الصهيوني الذي سعى بكل ما أوتي من قوة في تضعيف قوة حزب العدالة والتنمية وفي تشويه شخص أردوغان، والدخول في حلف إماراتي مصري ضد تركيا. وقد اعتبرت الصحف الصهيونية نتائج الاتخابات التركية بأنها هزيمة لأعداء الصهيونية وهي نفس العناوين التي كتبتها أغلب الصحف المصرية والغربية في إشارة الى العداء الكبير لحزب العدالة والتنمية المناصر للقضية الفلسطينية.
الملف الليبي:
يعتقد أن موقف تركيا تجاه ما يحدث في ليبيا لن يتغير كثيرا على اعتبار أن المسألة الليبية مسألة لا تهدد أمن تركيا بشكل مباشر مثل الملف السوري، وبالتالي سيظل موضوعا ليس محل خلاف كبير بين الأحزاب التي ترغب في تشكيل حكومة ائتلافية.
لكن سيظل الملف الليبي رهن الصراع بين المحور التركي القطري والمحور الاماراتي المصري. وقد يطرأ تغيير على مشهد الصراع بين القوى المتحاربة في ليبيا إذا ماسيطر محور على آخر. المشهد السياسي الجديد في تركيا سيؤثر سلبا على حكومة طرابلس وقد يتراجع إذا مانجح المحور الاماراتي المصري الاسرائيلي في اضعاف محور تركيا قطر السعودية.
نعلم جميعا أن ليبيا الغنية بالبترول ستعمل عدة قوى اقليمية وغربية على حرمان تركيا من الاستفادة من ثروة النفط الليبي الذي بات محل رهانات القوى الدولية وتحول الصراع بين الفصائل الليبية المتناحرة الى حرب بالوكالة بين هذه المحاور المتصارعة اقليميا ودوليا.
خلاصة القول إن شكل الحكومة التركية المقبلة والمشهد السياسي القادم في تركيا سيكونان محددين كبيرين لطبيعية الخارطة الاقليمية وللمشهد الجيوستراتيجي في المنطقة ، كما أنهما سينعكسان على مسار ثورات الربيع العربي وعلى المشروع التغييري الذي ساندته تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية منذ سنة 2011. كما أننا سنشهد ظهور توازنات جديدة في منطقة الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا قد تغير في الخارطة الجيوستراتيجية، وقد يكون سببا في تشكل محاور صراع جديدة في كلا المنطقتين.
وقد يحدث أي تغيير في أي دولة من دول المحاور المتنافسة مما يؤثر بشكل كبير على التوازنات وعلى طبيعة الخارطة الجيوستراتيجية وعلى مستقبل المنطقة بشكل كامل خصوصا أن هناك مناطق مرشحة لظهور تغيير سياسي فيها مثل الجزائر وبعض الدول الخليجية.