تستثمر إسرائيل، أزمة مقاومي رفح العالقين في أحد أنفاق المدينة منذ أشهر، في محاولة اختتام مشهد الحرب بصورة انتصار أخيرة، تريد أن تمحو بها كل المشاهد البطولية التي صدّرها المقاومون منذ عملية «طوفان الأقصى». وعلى مدى عامَين من حرب الإبادة، وفي رفح تحديداً، نفّذ مقاتلو «كتائب القسام» مئات المهمّات القتالية، وعشرات الكمائن النوعية التي عكست مستوى عالياً من الجرأة والبطولة؛ فظهروا أكثر من مرّة وهم يحيطون ناقلات الجنود المأهولة، يزرعون على ظهرها العبوات الناسفة، ثم ينسحبون بسرعة الريح، تاركين للانفجار والحريق التهام جنود العدو. وفي وقائع أخرى، حوّلوا عشرات المنازل إلى مقابر لقوات الاحتلال، عبر تفخيخها بالعبوات الناسفة شديدة الانفجار، والتي حوّلت أجساد الجنود إلى أشلاء. وفي رفح أيضاً، نفّذت المقاومة سلسلة كمائن متتالية انتقاماً لاغتيال قائد حركة «حماس»، الشهيد يحيى السنوار. ولعلّ ممّا ميّز العمل المقاوم في المدينة، هو البعث المستمرّ من العدم؛ فقد أعلن جيش الاحتلال أكثر من أربع مرّات تمكّنه من القضاء على كتائب المقاومة في رفح وتطهير المدينة بشكل كامل، مستعرضاً زيارات ميدانية قام بها قادة الأركان ووزراء حرب الاحتلال. إلا أنه عقب كلّ إعلان، كانت المقاومة تبدأ سلسلة عمليات جديدة.
سرُّ مدينة رفح التي كانت تُطلق عليها «كتائب القسام»، منذ عام 2014، «الصندوق الأسود»، ظهر قبل 11 عاماً، عندما تمكّنت المقاومة من اعتقال الضابط الإسرائيلي، هدار غولدن، مبقية على جثمانه محتجزاً في أحد أنفاقها. وقد خاضت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، معارك لم تتوقّف لتحديد مكان احتجاز جثمان القتيل. وعندما ظنّ جيش الاحتلال، عبر عامَي الحرب، أنه امتلك المعلومة الذهبية التي ستمكّنه من استعادة جثة الضابط الأسير، رغماً عن المقاومة، أجرى عمليات حفر وبحث واسعة استمرّت على مدى أسابيع طويلة، حفر خلالها طويلاً في النفق الذي كان يُحتجز فيه الجثمان، ولكنه فشل في العثور عليه، كما تعرّض إلى كمين نوعي في أثناء العملية، أدّى إلى مقتل أحد جنوده وإصابة آخرين، إلى أن اختُتمت قصة غولدن، بقيام «القسام» بتسليم جثّته قبل عشرة أيام، بعدما ذهب مقاتلوها بأنفسهم لاستخراجه.
والسرّ هنا، يكمن في شبكة الأنفاق شديدة التعقيد التي استطاعت المقاومة حفرها وتشديدها على مدار سنوات. ففي أحد الأنفاق المكتشفة في مخيم «يبنا»، والذي أفردت الصحف العبرية مساحة واسعة للحديث عنه، يُحكى عن نفق بطول سبعة كيلومترات وعمق 25 متراً، يضمّ 80 غرفة، ويُقدّر الصحافيون الإسرائيليون أنّ بناءه استغرق 250 ألف يوم عمل مستمرّ، علماً أنّ «يبنا» ليس سوى واحد من شبكة أنفاق ممتدّة يزعم جيش الاحتلال أنه لم يكتشف منها سوى 40%.
ما يقوم به إعلام جيش الاحتلال، في الوقت الحالي، هو تحطيم كل الرموز التي ظلّت طوال أعوام، أدوات تعبئة وتأثير وتعاطف
وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية الموجّهة من جيش الاحتلال، تجري أكبر عملية استغلال للحدث؛ ليس لصناعة صورة الانتصار فحسب، بل لترسيخ شعور الخذلان والهزيمة لدى الطرف المقابل. فقد ظهر مقاومو «القسام» في المشاهد المتتابعة على نقيض ما حُفظت به هيئاتهم في العمليات والكمائن التي بُثّت طوال عامين: رجال متعبون بلحىً كثّة وأجساد هزيلة وأقدام مدماة، يبدو عليهم أنهم لم يذوقوا طعم الزاد منذ شهور طويلة، يقبض جنود الاحتلال على بعضهم ويخضعونهم إلى تحقيق مهين، ثم يكرّرون على مسامعهم أنّ قادة «القسام» تركوهم لمصيرهم وتخلّوا عنهم. وفي صور أخرى، تظهر الجرّافات العملاقة وهي تنتشل جثامين المقاومين الشهداء وتلقي بها على كومة من الرمال. وفي ثالثة، يَظهر خمسة من المقاومين وهم جاثون على أقدامهم وأعينهم مقيّدة، وأيديهم إلى الخلف، إلى جانب ناقلة جنود. وكان جيش الاحتلال أعلن، مساء أمس، أنه تمكّن من اغتيال تسعة من عناصر «القسام» في أنفاق رفح. وبذلك، يصبح عدد الشهداء الذين تمّ استهدافهم في أثناء محاولة الانسحاب، 30 مقاتلاً.
في صراع الصورة والسردية، يهدف جيش الاحتلال، ومن خلفه منظومة الإعلام العبري الموجّهة، إلى ترسيخ خطاب القوة والهيمنة، عبر تصدير المقاتل بصورة المكسور والمهزوم والمستسلم، التي من شأنها تفكيك رمزية المقاومة البصرية التي تمّ تعزيزها، منذ السابع من أكتوبر وعلى مدى عامَي الحرب، بأعلى مستويات التضحية والشجاعة والفداء. ففي أثناء تلك المدّة، ظلّت الصورة التي يبثّها جيش الاحتلال لمعارك جنوده هزيلة وخالية من وجود الخصم: ظهر جنود العدو وهم يطلقون الرصاص ويتنقّلون بين الخرائب من دون أن يَظهر خصمهم المقاوم.
ما يقوم به إعلام جيش الاحتلال، في الوقت الحالي، هو محاولة تحطيم كل الرموز التي بقيت طوال أعوام، أدوات تعبئة وتأثير وتعاطف، وتحويلها إلى أدوات هزيمة وإذعان، في أبلغ تجسيد لـ«بلاغة الصورة»، بحسب تعبير رولان بارت. أمّا عمليات التحقيق الميداني المسجّلة بكاميرا الجنود مع المقاومين الذين تمّ اعتقالهم، فحملت مضموناً واحداً، وهو ضرب العلاقة بين المقاوم والقيادة، عبر تكرار عبارة: «تخلت عنكم قيادتكم»، وهو ما يصبّ في إطار مشروع سياسي أوسع عنوانه «نهاية المقاومة» وانتفاء الجدوى منها.
وفي مقابل كلّ المجهود الدعائي الإسرائيلي، نالت صور المقاتلين في الأوساط الشعبية تعاطفاً واسعاً؛ فالأهالي يعرفون أبناءهم، ويحفظون بطولاتهم، ويعلمون أنّ الصورة التي يقدّمها العدو اليوم على أنها النهاية والخاتمة، لن تكون سوى البداية.
المصدر: الأخبار اللبنانية