غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

تبادل أدوار بين أمريكا والكيان والهدف: سلاح المقاومة

ترامب و نتنياهو ..jpeg
شمس نيوز - أسماء بزيع

في هذا الشرق الذي لم يهدأ يومًا، تتكشّف الحقائق كما تتكشّف الندبات على جسدٍ أنهكته الحروب، ويبدو المشهد كأنما كُتب بحبرٍ ثقيل لا يجفّ. فانقشعت الغشاوات عن لعبةٍ سياسيةٍ كانت تُدار طويلًا في الخفاء.

وما يجري اليوم في غزة وفي جنوب لبنان ليس فصلًا جديدًا من الصراع بقدر ما هو إعادة رسم للوحةٍ ظنّ صانعوها أنهم قادرون على التحكم بكل تفاصيلها، وإذ بالظلال تكشف ما عجز اللون عن إخفائه. فلم تعد مجرد سلسلة أحداث متفرقة، بل خيوطٌ متشابكة في نسيج واحد، تحيكه القوى الكبرى وفق مصالحها ورهاناتها، وتقرأه الشعوب من زاوية الصمود والبقاء.

غزة، التي أطفأت دهشة العالم بكثرة ما احترقت، لم تعد مجرد مدينة محاصرة، بل مرآة في وجه البشرية. مدينة يتداخل فيها صوت الأنقاض مع نبض القلوب، وتفوح من شوارعها رائحة الصمود أكثر مما تفوح رائحة الغبار.  لقد كشفت الاعتداءات الأخيرة عليها، بما حملتها من وحشية غير مسبوقة، عن انتقال الاحتلال إلى مرحلة جديدة من التدمير العاري، بلا أقنعة ولا خطاب مُنمّق.

فالكيان الذي اعتاد أن يختبئ خلف خطابٍ متأنّق، ويحرص على ترويج سردية "الدفاع"، فقد كل ذرائعِه، وخرج هذه المرة من جلده عاريًا، مستندًا إلى يدٍ أمريكية تحاول أن تُمسك بالخيوط من بعيد، كأنها تلعب بقدَرٍ لا يخصّها، وراح يستنجد بالدعم الأميركي ليحافظ على ما تبقى من صورته المتداعية. أما واشنطن، فتمارس دور "الوصيّ" الذي يوزّع الأدوار بين حلفائه، متقدمة خطوة ومتراجعة أخرى، وفق مقتضيات اللحظة وضغوط الداخل الأميركي المتأزم.

وفي لبنان، المشهد لا يقلّ دلالة. التصعيد الممنهج الذي طال الجنوب، وما رافقه من اغتيالات ومحاولات فرض قواعد اشتباك جديدة، وتهديدات.. كلها فصول تُعاد كتابتها بإصرار، حتى يخال المراقب أن الزمن عاد إلى تلك اللحظات التي كانت فيها البلاد تقف على خط النار. كما أنها ليست انفجارًا عابرًا، بل إشارة واضحة إلى أن الكيان يسعى إلى نقل الضغط من غزة إلى الساحة اللبنانية، لتمزيق توازن الردع الذي شيّدته المقاومة على مدى عقود.

غير أن الردود المحسوبة التي شهدناها مؤخرًا، والرسائل الدقيقة التي حملتها، أثبتت أن المقاومة ما زالت تمسك بزمام المبادرة، وأن المعركة ليست ميدانية فحسب، بل نفسية وإعلامية ومسار استراتيجي يتقدّم خطوة خطوة، بوعيٍ يشبه وعي الجبال حين تحرس جذورها.

في خلفية المشهد، تتحرك واشنطن كمن يمارس سياسة التنفّس الصناعي للكيان. تقترب حين يترنح، وتبتعد حين يلزم الهدوء، وتوهم العالم أنها "وسيط"، بينما هي المهندس الذي يرسم، ويوزع الأدوار، ويعيد ضبط مسار النار. لقد بات جليًا أن هذه المنطقة تُدار بمنطق المقايضة: صمت من هنا، نفوذ من هناك، توقيع على ورقة، وبيع لحقّ الشعوب في أن تبقى حيّة.

وفي موازاة ذلك، تتكشّف على الساحة الإقليمية تحولات كبرى. فالتقارب الثنائي بين دولٍ عربية وازنات لم يعد بريئًا من الحسابات، إذ تسعى بعض العواصم إلى تثبيت مكاسبها عبر مقايضات سياسية تتصل مباشرةً بملفات النفط والطاقة والممرات البحرية. ولعلّ أخطر ما في الأمر أن هذا الحراك يجري فيما الدم الفلسطيني ما زال ينزف، وفيما لبنان يعيش على حافة اشتعال قد ينقله من دولة مأزومة اقتصاديًا إلى دولة منكوبة أمنيًا.

أما على مستوى الخطاب الدولي، فقد بدا أكثر انفصالًا عن الواقع. فالدعوات إلى "التهدئة" و"الاحتواء" تأتي غالبًا بعد أن يكتمل مشهد الدمار، وكأنها محاولة تبييض للصفحات السياسية بدل أن تكون موقفًا أخلاقيًا حقيقيًا. وما جرى مؤخرًا من تصريحات لمسؤولين غربيين حول "إعادة ضبط" دور المقاومة في لبنان، يكشف حجم الضغوط التي تمارسها واشنطن على الحكومة اللبنانية لجرّها إلى مربع جديد، عنوانه العريض: تحجيم قدرات المقاومة ونزع أسلحتها الاستراتيجية.

لكنّ الوقائع على الأرض أثبتت أن هذا الهدف بعيد المنال. فالمقاومة التي وُلدت من رحم الاحتلال والحصار، لم تعد مجرد جناحٍ عسكري، بل منظومة متكاملة تمتلك قدرات تقنية واستخباراتية وإعلامية واقتصادية، ورثت تجربة عقودٍ من المواجهة، وراكمت عناصر قوة تضيق عليها كل محاولات إعادة صياغة التوازنات. والأهم، أنّها باتت اليوم جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية والاجتماعية لشريحة واسعة من اللبنانيين والفلسطينيين، لا يمكن شطبها بقرار دولي ولا بحصار اقتصادي ولا بتفاهمات فوقية.

ولا يمكن تجاهل ما حملته الأسابيع الأخيرة من إشارات: الغارات الاستعراضية، تهديدات القادة، التحركات البحرية، الإصرار الأميركي على إبقاء حاملات الطائرات في المتوسط، زيارة الوفود الأمنية، والتسريبات حول "مرحلة جديدة" من الضغط. كلها خطوات تُظهر أن ما يجري ليس فقط إدارة أزمة، بل هندسة مشهد تستهدف أساسًا قوة المقاومة وسلاحها النوعي، الذي بات العامل الأكبر المعطل لمشاريع التقسيم والتطبيع والسيطرة.

ومع كل هذه التعقيدات، يظل المشهد الحقيقي بعيدًا عن كل عمليات التضليل: فالمقاومة في غزة أثبتت أنها رغم الجراح ما زالت تقاتل، والمقاومة في لبنان ما زالت تفرض معادلات جديدة، والشعوب التي صمدت تحت النار لم تفقد يقينها بأن معركة التحرر لم تعد مجرد شعار، بل قدر تاريخي تُكتب فصوله بالأقدام الثابتة والدماء الطاهرة.

في خلاصة المشهد، يظهر بوضوح أن هناك تبادلًا ذكيًا ومحسوبًا للأدوار بين الولايات المتحدة والكيان، هدفه الخفي والعلني معًا: ضرب سلاح المقاومة وتجريده من شرعيته السياسية والشعبية. واشنطن تضغط، والكيان ينفذ؛ الأولى ترسم المسار الاستراتيجي، والثاني يشعل الميدان لتبرير الخطوات المقبلة.

غير أنّ ما يغيب عن مخططي الحرب هو أن الشعوب لا تُهزم بالإملاءات، وأن السلاح الذي وُجه يومًا للدفاع عن الأرض والكرامة ليس تفصيلًا يمكن شطبه من الهوية. فالمقاومة ليست قوة عسكرية فحسب، بل فكرة، والفكرة لا تُمحى. وهكذا، وسط الركام والدخان، يبقى الصمود هو العنوان، ويبقى الجنوب وغزة شاهدين على أن القوة الحقيقية ليست في السلاح وحده، بل في الإرادة التي لا تُكسر، وفي الشعوب التي تعرف تمامًا أن الحق لا يموت، ولو تكالبت عليه قوى الأرض كلها.