«الأيام التي هيمنت فيها منطقة الشرق الأوسط على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في ما يتعلّق بالتخطيط الطويل الأجل أو التنفيذ اليومي، قد ولّت لحسن الحظ؛ لا لأن الشرق الأوسط لم يعُد مهماً، بل لأنه لم يعُد مصدر الإزعاج المستمر والمصدر المحتمل للكارثة الوشيكة، كما كان في السابق». بهذه العبارات، حدّدت استراتيجة الأمن القومي التي كشفت عنها إدارة دونالد ترامب، هذا الشهر، سياسة واشنطن «الجديدة» تجاه المنطقة، مصوّرةً الأخيرة على أنها محض «مكان للشراكة والصداقة والاستثمار». وطبقاً للوثيقة الممتدّة على 29 صفحة، فإن «الشرق الأوسط أصبح أكثر استقراراً»، بعدما باتت إيران، بشكل خاص، «ضعيفة جداً» على خلفية «الإجراءات» الإسرائيلية منذ الـ7 من أكتوبر 2023، فضلاً عن القصف الأميركي لمنشآتها النووية. وفيما تحاول واشنطن استمالة «شركائها» العرب بالصفقات والاستثمارات، لم تكن مستغرَبةً إشارة الوثيقة إلى أن «الشركاء في الشرق الأوسط يُظهرون التزامهم بمكافحة التطرف، وهو توجّه يجب أن تستمر السياسة الأميركية في تشجيعه»، منوهةً في المقابل إلى أن «القيام بذلك سوف يتطلّب التخلي عن التجربة الأميركية المضللة في إجبار هذه الدول – وخاصة ممالك الخليج – على التخلّي عن تقاليدها وأشكال الحكم التاريخية فيها».
على هذا النحو، رسّخت الوثيقة الأحدث، التوجّه الأميركي المستمرّ منذ سنوات في الشرق الأوسط، والقائم على تهميش القضايا الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي دأب المسؤولون الأميركيون على التأكيد أنها «لم تعُد ضمن أولويات السياسة الخارجية» لبلادهم. وفي مقابل «الانسحاب» من صراعات الشرق الأوسط وترك أمر حسمها لإسرائيل بالطريقة «السهلة» أو «الصعبة» كما لا يفتأ دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو يردّدان، قرّر ساكن البيت الأبيض الحالي صبّ جام اهتمامه/ غضبه على «النصف الغربي» من الكرة الأرضية، الذي يتطلّع إلى فصله عن بقية العالم. على أن «الانفلات الإسرائيلي» المدعوم بـ«شيك أميركي على بياض»، دفع حتى بأكثر المراقبين «إعجاباً» بسياسات ترامب القائمة على القوة، والبعيدة من «المثالية»، إلى التحذير من أن الاستمرار في تغذية «الغرائز» الإسرائيلية سيحول دون التوصل إلى تسويات في الشرق الأوسط، ويخاطر بإبقاء واشنطن منخرطة في المنطقة.
بناءً على ما تقدّم، برز عدد من الأصوات التي تدعو، علناً، واشنطن إلى إعادة تقييم علاقتها مع الكيان الإسرائيلي، في حال أراد ترامب الحفاظ على «إنجازاته» الديبلوماسية الهشّة في المنطقة، والتفرّغ لأماكن أخرى حول العالم. وفي السياق، يجادل الكاتب أندرو بي. ميلر، في تقرير نشرته مجلة «فورين أفيرز»، بأن تلك العلاقة ظلّت قوية ووثيقة واستثنائية، حتى خلال حرب غزة، على ضوء تقديم إدارتين أميركيتين مختلفتين دعماً ديبلوماسياً وعسكرياً غير مشروط، أو شبه غير مشروط، لإسرائيل. على أنه طبقاً للمصدر نفسه، ترتّب على ذلك الدعم ثمن باهظ؛ إذ إنه باستثناء الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في أوائل تشرين الأول 2025، فقد عجزت واشنطن إلى حدّ كبير عن التأثير في سلوك تل أبيب، وهو ما يتّسق مع تاريخ طويل من المعاملة «الاستثنائية» لإسرائيل؛ فعلى سبيل المثال، عندما تشتري دول أخرى السلاح الأميركي، تكون الصفقات خاضعة لسلسلة من القوانين الأميركية، وهو ما لم تكن تل أبيب مجبرة، يوماً، على الامتثال له؛ كما أن الشركاء الآخرين يتجنّبون إظهار تفضيل واضح لحزب سياسي أميركي معيّن، بينما يفعل قادة إسرائيل ذلك من دون أيّ عواقب. وحتى عندما تتعارض سياسات تل أبيب مع سياسات واشنطن الخاصة، تمتنع الأخيرة عن توجيه أيّ انتقاد، ولو طفيف، إلى الأولى، في المنظمات الدولية.
والواقع أن هذه «الاستثنائية» أضرّت بمصالح الطرفين، جنباً إلى جنب أنّها «ألحقت ما ألحقته» من أذى هائل بالفلسطينيين. وبدلاً من أن تساعد في ضمان بقاء إسرائيل - وهو الهدف المُعلن لها -، فهي سمحت بترسيخ «أسوأ نزعات» القادة الإسرائيليين، والتي انعكست في استمرار التوسّع الاستيطاني غير القانوني وتصاعد عنف المستوطنين في الضفّة الغربية، وسقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين في غزّة، إضافة إلى تفشي المجاعة في بعض المناطق. كذلك، أتاح الدعم غير المشروط لإسرائيل لها الإقدام على عمليات عسكرية متهوّرة في أنحاء الشرق الأوسط، وزاد من المخاطر الوجودية التي تواجهها هي نفسها. أمّا في الولايات المتحدة، فقد أدّت حرب غزة إلى تراجع كبير في التأييد الشعبي لتل أبيب، مع وصول المواقف السلبية تجاهها إلى مستويات قياسية عبر مختلف الانتماءات السياسية. وعليه، لا يمكن، طبقاً للتقرير، لهذه العلاقة أن تستمرّ بصيغتها الحالية إلى ما لا نهاية، بل هي «تحتاج إلى مقاربة جديدة، أكثر انسجاماً مع طريقة تعامل واشنطن مع الدول الأخرى، بما في ذلك أقرب حلفائها»، تشمل توقّعات واضحة وحدوداً، ومحاسبة على الالتزام بالقانونين الأميركي والدولي، وربط الدعم بشروط، لا سيما عندما «تتناقض السياسات الإسرائيلية مع المصالح الأميركية»، جنباً إلى جنب منع التدخّل في سياسة واشنطن الداخلية.
وما يعزّز أهمية هذا التغيير، بحسب أصحاب الرأي المتقدّم، أن إسرائيل «لا ترى سبباً لمراعاة المصالح والهواجس الأميركية، نظراً إلى أن تجاهلها لا يكلّفها شيئاً»، بل هي تبدو أكثر جرأة في تبنّي «مواقف حادة»، تتعارض غالباً مع المصالح الأميركية، وأحياناً مع مصالحها الخاصة. رغم أنها «وجّهت ضربات قاسية إلى أعداء مشتركين مع الولايات المتحدة، وأن ضمان استمرار الدعم الأميركي يساعد في ردع خصومها، لكن تفوّقها الكبير على منافسيها يخلق حافزاً معكوساً يدفعها إلى التصرّف بتهوّر وبلا مبررات أحياناً»، بينما يجعل الدعم الأميركي غير المشروط لها، الولايات المتحدة شريكة في أفعالها، ما يعرّض قوات الأخيرة أحياناً لردود مباشرة. فعلى سبيل المثال، لم تقابَل العمليات الإسرائيلية في لبنان وسوريا، خلال الربيع والصيف، إلا باحتجاجات أميركية شكلية وضعيفة؛ كما أن ترامب لم يتدخّل للضغط من أجل وقف إطلاق نار جديد في غزة إلا في أواخر أيلول 2025، أي «بعد مقتل ما يقرب من 20 ألف فلسطيني إضافي منذ انهيار وقف إطلاق النار الأول في كانون الثاني 2025»، علماً أن هذا الضغط جاء بعد محاولة الاغتيال المتهوّرة التي نفذتها إسرائيل في أيلول ضدّ قادة «حماس» في قطر، والتي قوّضت مصداقية الولايات المتحدة مع حلفائها.
في الخلاصة، وفيما تسعى واشنطن إلى «طيّ صفحة» الشرق الأوسط، فإنّ ارتباطها العضوي بإسرائيل لا يفتأ يجرّها إلى عمق الصراعات التي تحاول الهرب منها، فيما ينشغل خصومها، ولا سيما الصين وروسيا، في المقابل، بتعزيز صورتهم كقوى دولية «مسؤولة» وأكثر «أخلاقية» من داعمي آلة الإبادة الإسرائيلية.
المصدر: الأخبار اللبنانية
