تجلس "أم أحمد" قرب سرير نجلها، في إحدى زوايا مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تراقب ملامحه التي تغيرت، وتعد أنفاسه كما لو أنها تخشى أن يضيع منها مرةً أخرى، بعد خمسة أشهر ما زال "أحمد" فيها عالقاً بين الحياة كما يعرفها، والحياة كما فُرضت عليه قسراً.
"أحمد سعيد" (18 عاماً)، شابٌ فقد بصره، وعائلته، خلال حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، لكنه بقي متشبثاً بخيط أمل رفيع، لا يراه بعينيه، لكنه يشعر به في قلب أمه.
القصة المؤلمة بدأت منذ بداية حرب الإبادة، حيث شارك "أحمد" والدته رحلة النزوح القاسية، متنقلاً من مكان إلى آخر، ومتحملاً أعباء تفوق عمره، فكان يطبخ، ويشعل النار، ويجلب الماء، ويقف إلى جانب والدته في تفاصيل الحياة الصغيرة التي صارت معركة يومية للبقاء.
وعندما ضربت المجاعة قطاع غزة بسبب الحصار الإسرائيلي الخانق، قرر الخروج لجلب الطحين لعائلته، ورغم توسلات أمه بعدم الذهاب لمصائد اليوم، إلا أن إصراره كان أقوى، فعقد العزم وَقَبَّلَ يديها وقدميها طالباً رضاها، ثم خرج إلى منطقة "نتساريم" وسط قطاع غزة؛ لكنه لم يعد كما خرج.
عاد "أحمد" محمولاً إلى مستشفى شهداء الأقصى، بعد أن اخترقت رصاصة رأسه واستقرت في دماغه، تاركةً خلفها ظلاماً دائماً في عينيه، ووجعاً لا ينطفئ في قلب أمه، ومنذ تلك اللحظة بدأت حياته وحياة أمه تزداد سوءاً.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
ولم يكن "سعيد" يبحث عن لقمة تسد جوع أسرته فقط، بل كان طالباً على أعتاب مرحلة مصيرية في حياته؛ إذ كان يستعد لتقديم امتحانات الثانوية العامة "التوجيهي"، ويواصل دراسته رغم الجوع والحصار وقسوة النزوح، فهو من الطلبة الأوائل في مدرسته، وعُرف بين أقرانه بالتفوق والاجتهاد والذكاء، واعتمد على نفسه رغم أنه تربى يتيماً وفقد والده منذ الصغر، وكان سنداً كاملاً لوالدته ويقوم بكل شؤون البيت، إضافة إلى شغفه الشديد بالرياضة، وخصوصاً رياضة الكونغ فو.
تقول والدته لمراسل "شمس نيوز"، أن نجلها كان يراجع دروسه على ضوء الشمعة، في ظل عدم وجود الكهرباء التي قطعها الاحتلال بشكل كامل منذ اليوم الثالث للحرب، ويقاسم وقته بين الكتاب ومسؤوليات البيت، مؤمناً أن العلم هو طريقه الوحيد للنجاة وبناء مستقبله، لكن رصاصة الاحتلال الغادرة انتزعت ذلك منه، وأسقطت حلم التوجيهي.
وتضيف "أم أحمد"، وهي تتأمل ملامح نجلها المصاب، أن الطاقم الطبي في مستشفى شهداء الأقصى يبذل كل ما بوسعه لإنقاذ أحمد، بضمير كامل، لكن نقص الإمكانيات يقف حاجزاً قاسياً أمام علاجه وشفائه".
منذ لحظة الإصابة تكافح الأم للحصول على تحويلة طبية تنقذ نجلها، وبعد خمسة أشهر من المحاولات، بدأت إجراءاتها أخيراً، لكن المعبر ما زال مغلقاً، والأدوية شحيحة.
تقول: "أحمد يعاني من سوء تغذية حاد، انخفض وزنه إلى خمسين كيلوغراماً فقط، ويحتاج إلى غذاء خاص، وحليب، ومكسرات، وحفاضات"، وهي احتياجات تعجز والدته عن توفيرها كون أنه لا معيل لها ولا مصدر دخل.
وتناشد "أم أحمد" العالم والمؤسسات الدولية والحقوقية ومنظمة الصحة العالمية، بأن تنظر إلى نجلها بعين الرحمة، وأن تُسهم في تسريع تحويلته، وتقديم ما يمكن من دعم، عله يعود كما كان شاباً يرى الحياة بعينيه الجميلتين مرةً أخرى.
