قائمة الموقع

أربعون دقيقة نحو حضن الخيمة.. مراسل "شمس نيوز" يسرد حكاية "النجاة المؤقتة" تحت أزيز المطر!

2025-12-17T12:18:00+02:00
شمس نيوز - وليد المصري

السادسة مساءً، كان البرد شديداً، لا يشبه برد الشتاء الذي عرفتُه سابقاً، يلسع العظام ويصل بلا استئذان إلى القلب ليجمد الدم فيه، الأمطار كانت تهطل بغزارة، مصحوبة بعواصف رعدية، والسماء بدت غاضبة، وكأنها تُفرغ ما في جوفها دفعة واحدة.

كنتُ في نهاية دوامي الصحفي اليومي، وضَّبْتُ أغراض العمل، بينما كان صوت الرعد يزمجر فوق رأسي، ويهز المكان، فَخُيِّل إِلَيَّ أن الجدران المرتجفة ستبوح بكل ما سمعته من وجع.

تحاصرتُ في مقر مركز التضامن الإعلامي بمواصي القرارة، جنوبي مدينة خانيونس، كان الحصار مؤقتاً، أو هكذا أقنعت نفسي، جلست أتناقش مع بعض الزملاء، نضحك ضحكة قصيرة، ثقيلة، تشبه الاستراحة بين غارتين.

امْتَزَجَتْ روائح القهوة الباردة برائحة الرطوبة، وصوت المطر وهو يجلد الشادر الذي تحول إلى سقف يحمي من ماء المطر، كان إيقاعاً ثابتاً، كأنه عَدَّادٌ ينتظر شيئاً أسوأ.

توقف المطر لبرهة، كان الصمت خادعاً، كصمت ما قبل الكمين، قلتُ في نفسي: "هذه فرصتي"، فغادرتُ المكان على أمل أن أجد سيارة أجرة تقلني إلى منطقة "الأقصى" حيث خيمتي، لكن الطريق كان خالياً من كل شيء عدا حلكة الليل الموحشة وبرد الشتاء القارس، وبرك الماء التي تعكس وميض البرق، وكأن الأرض تومض من الألم.

اخترتُ السير على الأقدام لمسافة قصيرة، لعلي أجد سيارة في الطريق، قطعتُ شوطاً ليس بالقليل، ثم فجأة، عادت السماء لحالتها الجنونية، انهمر المطر بغضب أشد، وبدأت الأرض تتحول إلى مستنقعات، غُصْتُ في الوحل حتى كادت قدماي تُسحبان من تحتي، غرقتُ في المياه، وابتلت ملابسي تماماً، تسلل البرد إلى صدري وجمَّد أضلاعي، وسط ثقل الوحل الذي يشدني إلى الأرض، كأنه رمال متحركة.

بدأتُ أركض بكل ما تبقى لديَّ من قوة وسط الأمطار الغزيرة، لم يكن هناك مكان ألوذ به، فالبيوت مهدمة، وجدرانها بلا سقوف، وخيام النازحين بائسة، لقد كنتُ مكشوفاً للسماء ولمطرها.

فجأة تذكرتُ شيئاً، فأخرجتُ هاتفي من جاكيتي المبتل، كانت أصابعي ترتجف، وكأن الهاتف نفسه كان يرتعش خوفاً، اتصلتُ بابن العم "محمد يحيى المصري"، النازح في منطقة "الأهرامات" داخل خيمة، وما إن جاءني صوته حتى قلتُ له بسرعة، وأنفاسي متقطعة: "بدي أجي عليكم، غرقت، وما في سيارات تروِّحني ع خيمتي".

قال بهدوء: "أهلاً وسهلاً يا ابن عم، الخيمة خيمتك"، هنا شعرتُ بأن الدنيا لا زالت بخير، رغم دمار البيوت وضيق الأماكن والأحوال.

شققتُ طريقي نحوه مشياً، وكانت المسافة طويلة، أطول مما تحتمله قدماي المبتلتان، وكلما تقدمت خطوة، ازداد المطر صلفاً، وكأن السماء لها عيون تراقبني، كانت الرياح تعصف بوجهي، وتحمل معها رائحة الطين والغبار.

لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام

بعد حوالي أربعين دقيقة من السير، وصلتُ أخيراً، ودخلتُ الخيمة، فبدلت ملابسي المرتجفة، وجلستُ قليلاً أستعيد أنفاسي، كانت الخيمة باردة جداً، لكن دفء البشر فيها كان كافياً لأن أغفو؛ فنمت كنائم قد نجا من الوحش قبل قليل.

لكنني استيقظت مفزوعاً على صوت اخترق وقت الفجر: "اصحوا، اصحوا كلكم! المَيَّة دخلت المخيم وغَرَّقَته!"، كان هذا صوت "حسن"، حاداً ومذعوراً، حوالي الساعة الرابعة والنصف فجراً، فقفزتُ من مكاني، وكانت المياه قد تسربت من كل اتجاه، وتحولت الخيام إلى جزر صغيرة، والناس يخرجون منها على عجل، بملابس النوم ووجوه شاحبة، وأقدام حافية.

كانت الوجوه تكاد لا تُرى، والإضاءة الوحيدة تنبعث من كشافات الهاتف الذي كان يُمسك به "إياد"، بدأ النازحون ينقلون المياه بالجرادل والدلاء، ويفرغون الخيام في الخارج، حيث كانت الأوضاع أسوأ، وكانت رائحة الطين خانقة، التي امتزجت برائحة الأقمشة المبللة والأجساد التي أنهكها السهر والنزوح، مع أصوات الأطفال وصراخ النساء في سيمفونية من الفوضى بلا قائد.

أمسك "أحمد" الكريك وبدأ يحفر خندقاً في الأرض الطينية، كان يحفر بسرعة كبيرة، ووجهه مبللاً، لا تعرف أهو من المطر أم من التعب، عيونه كانت معلقة بالأرض، كأنه يناشدها أن ترحمنا هذه المرة، على جانبه كان كل من "زكي" و"حسن" ينقلون المياه بالدلاء إلى الخارج.

كان "أبو سليم" يُتابع وشقيقه "يحيى" وبجانبهما "أبو شريف" و"أبو عطا" يُوجهان الشباب نحو مسار الحفر، وبصوت ثقيل من ثقل التعب قال: "المياه دخلت من جميع الاتجاهات وأغرقت خيام النازحين، كل الأمتعة امتلأت بالمياه، وأصبح النازحون حائرين ولا يستطيعون فعل شيء"، كانت الصورة أبلغ من الكلام فعلاً، هنا يعزَّ الكلام عن وصف مأساة النازحين في مواصي خانيونس.

رأيتُ "أبو شادي" يحمل فراشه المشبع بالماء، كلما رفعه نزل منه المطر كجرح مفتوح، أما أنا فقد أخرجتُ هاتفي لأوثق جزءاً من تلك المعاناة، وبعدها أمسكتُ "الكريك" الذي كان على جانبي الخيمة، وبدأتُ بالحفر ونقل المياه، وقتها كان ذهني مشحوناً بالأسئلة: "من أجل ماذا؟ وإلى متى؟".

مع أول خيط رمادي للصباح، هدأ المطر قليلاً، جلسنا منهكين، ملامحنا موحلة، وأقدامنا متشققة، وأيدينا ترتعد برداً، وخلال حديثنا، وسط الطين والماء والبرد، أدركتُ أن أقسى ما نعيشه ليس المطر وماؤه المنهمر، وليست الريح التي تنخر العظام، بل أن نصبح معتادين على النجاة المؤقتة كل فصل شتاء في الخيام، وأن ننام كل ليلة في حضن العاصفة ونستيقظ، رغم كل شيء، أحياء!.

اخبار ذات صلة